شعار قسم مدونات

هل التديّن والتعاسة وجهان لعملة واحدة؟!

blogs صلاة

إن سألت مسلماً.. ما الغرض من عبادة الله وحده؛ سيكون في الغالب رد فعله سريعاً: "السعادة في الدنيا والآخرة".. أما الآخرة، فهي أمر غيبي ومن شروط الإيمان.. وأما الدنيا، فهي حالنا وبها نستنتج ونستدل على مصيرنا الحقيقي في الآخرة.. ولكن مع الأسف بعض الناس يعتقدون أن العبادة يجب أن تكون مصحوبة بنوع من التعاسة والشقاء والآلام المتواصلة في هذه الدنيا، وأن هذه التعاسة هي الثمن الوحيد لبلوغ مصير أُخروي منعم.. ولكن هل هذا الاعتقاد صحيح أم أن للعبادة دور أساسي في تحقيق حياة دنيوية متوازنة وسعيدة؟ 

الخوف غريزة طبيعية متأصلة في قلوب بني آدم، منه الخوف الصحي الذي يدفعنا للحذر من ضرر حقيقي وموجود، ومنه الخوف الغير صحي المبني على توقعات وهمية ومخاوف غير حقيقية. فنحن دائما نخاف لأننا فاقدين للتحكم الكامل على حياتنا، فمهما بلغنا من السيطرة علي أقوالنا وأفعالنا، فمازلنا دائماً في حالة تخوّف من النتائج، هل ستوافق توقعاتنا أم سنصيب بخيبات الأمل؟ الخوف من المجهول.. من الغد.. من الفشل، وحتى من غموضية النجاح. فأصبح يومنا وحاضرنا مجرد تقلب بين حسرات الماضي وتخوّفات المستقبل. 

للقلب وسيلة تتم شبه آلية لمحاولة الخروج من دائرة المخاوف هذه والهروب من مواجهتها والتعامل معها. فنتعلق بأشياء وأشخاص لإعطاء أنفسنا أمل بأن هذه المخاوف ستنتهي يوماً ما، ولكنه أمل مزيّف لأنه غير فعال وقصير المدى، كالطفل الذي يأوي الي أحضان أمّه للهروب مما يتعرض له من مخاوف وعقبات، فهل في أحضان أمه يختفي العالم الخارجي؟! بل هي مجرد وسيلة تلازمنا من أيام طفولتنا لتخدير عقولنا ومواساة أنفسنا بملاحقة أشياء نظن أن فيها السعادة والأمن بخيالاتنا الغير متعلقة بالواقع، لأن مهما بلغ عشقنا وتعلقنا لشخص أو شيء فهو معرض للتغيّر والفناء، وما إن نصطدم بحقيقة الأشياء نبدأ في رحلة عشق جديدة رغبةً منا في سد هذا الفراغ في قلوبنا وخوفا من مواجهة أنفسنا.

من المحال الحكم على أحوال الناس بظاهرهم، وأن ما تراه مجرد حالة من التأقلم والتناسي بتحويل حياتهم إلى سلسلة من المُسكرات، إما بالاستمتاع وبتلبية نداءات أجسادهم المستمرة وإما بإشغال عقولهم

فهذا الخوف الدائم من كل شيء ولا شيء يرجع إلى سببين.. السبب الأول، هو سوء الظن بالله تعالى بسبب خلل في معرفته تعالى أو بسبب إنكاره أصلاً، وكأن لسان الحال يقول "لا شيء فوق السماء" أو "لن يتكفل بي ربي" أو "من أنا حتى يراني الله ويسمعني".. والسبب الثاني هو قلة الخوف والخشية من الله تعالى، لأن بمعرفة جبروته وسلطانه عز وجل، يصبح كل شيء استعظمته من أمور دُنياك لا شيء مقارنةً بعظمة الله تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء، وكأن منظورك للدنيا بعقباتها ومخاوفها أصبح من التفاهة والسذاجة مقارنة بعظمة الله تعالى وهول الآخرة.

أما رصيد قلبك من الحب والتعلق، فقد استنفذ لله وحده بمعرفة أسمائه وصفاته الجميلة، فلا مجال في قلبك للتعلق أو الهوس بأشياء وأشخاص، وأصبح حبك وكرهك للأشياء بما يستلزمه حبك لله، وبما تراه يزيدك حباً وقرباً منه، ومصدر أملك الوحيد، هو رجاء رحمته وعنايته بك. وإن وُفقت لعبادته حقاً، فتكون أياً من أهدافك الدنيوية سهلة التحقيق، لأنك وُفقت لأعظم عمل في هذه الدنيا بإخضاع جوارحك وعقلك وقلبك له تعالى، فتجد أمور الدنيا بالبساطة واليُسر لأنها لا تستلزم تحقيق هذا التوازن السامي المطلوب في العبادة، بل مجرد خطوات واضحة وبسيطة.. إما باستخدام جوارحك أو بإشغال عقلك، بل ويضاعف لك بإذن الله تعالى إن استحضرت قلبك ورجوت ثوابه.

قد يقول قائل: هناك من يتمتع بحياة سعيدة ومتوازنة اجتماعياً ونفسياً ولم ينطق لسانه "يا الله" قط. من المحال الحكم على أحوال الناس بظاهرهم، وأن ما تراه مجرد حالة من التأقلم والتناسي بتحويل حياتهم إلى سلسلة من المُسكرات، إما بالاستمتاع وبتلبية نداءات أجسادهم المستمرة وإما بإشغال عقولهم باستمرار فيما لا ينفع، فلا ماضي يؤرّقهم ولا مستقبل يقلقهم.. فهنيئاً عليهم هذه الدنيا!

ليس الهدف من الدين والعبادة تحصيل سعادة دنيوية فقط أو تحسين علاقتي بذاتي وبالأشخاص، ولكنها بشرى لما وراء هذه الدنيا وتسلية لنا عما نجده من مشقة في طاعة أو مخالفة لهوى، لأن هذه المشقة هي الثمن الحقيقي لمصير سرمدي منعم، ولكنها مشقة ممتعة في حالة واحدة فقط.. إن امتزجت بهدف واضح ونتيجة مشوّقة، كالذي يستمتع بإيلام جسده الفاني في سبيل تحصيل قوة وصحة جسدية، فما بالك بقيمة ترويض نفسك ومخالفتها في سبيل تحصيل قرب من الله تعالى وسعادة أبدية غير منقطعة؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.