شعار قسم مدونات

أطفال السودان.. ﻻ قدسية للموت أو للحزن!

blogs أطفال السودان

أمطار الخير والبركة في السودان لم تعد تحمل الخير والبركة البتة، فمنذ بدء الخريف ونحن نستقبل أخبار الموت كما نستقبل عصافير الصباح؛ دون إنذار. كنت أبلغ اثني عشر عاماً حين توفيّ جدي، وقتها لم أكن صغيرة، كنت أعرف الموت جيداً، ولكن لم أكن أعلم أنه بداية لذكريات ﻻ تموت، الزيارات المتكررة له في المشفى، وشربه لجرعتين من الماء كانت تغمرنا بالسعادة، وتخبرنا أﻻّ شيء أسوأ من هذا يمكن أن يحدث، حتى حين موته بكيت ليلة واحدة فقط، بعدها عادت الأمور كما هي، لكنني أذكر أنني وعلى مدار شهر كامل أحلم يومياً به، في المرة الأولى ارتعبت ورحت أصرخ كشخص أصابه المس، ولكنني بتوالي المرات اعتدت على الأمر، واعتيادي عليه ﻻ يعني سهولته، الأمر لم يكن سهلاً أبداّ، كان شاقاً ومرهقاً، لدرجة أنني كنت أتقاسم السرير مع أخواتي طيلة تلك الفترة، بعدها كثرت الوفيات، أو أنني بدأت أنتبه لها، وفي كل موت تنتعش ذكرى جدي كأنه مات بالأمس.

في كل خريف عشرات الموتى، ومئات البيوت التي لا تتقن الصمود تتهاوى، يختلط الأسمنت بالدماء واللحم، ولكن هذا الخريف عاد بباقة جديدة، باقة المئة شهيد، نرسل أطفالنا للمدارس كي يموتوا، نفرش للعزاء، نحزن قليلاً، بعض المنشورات على الفضاء الاسفيري، قليل من الضجة، بعض الهاشتاقات، وينتهي الأمر، لقد قمنا بالواجب على أكمل وجه، عزاء كما ينبغي للعزاء أن يكون، ونعود مرة أخرى لنقف في إحدى الصفوف.

يحدق الشعب حائراً في الوضع، وكأنه ابن غير شرعي لحكومة ﻻ تأبه، ولا تبرر حتى، وهو يعلم أن الخروج ﻻ يجدي، والجلوس لا يجدي، لذا يضحك، ويخترع النكات السمجة

ﻻ قدسية للموت أو للحزن، كل شيء أصبح عادة، ولنا واجبات تجاهه، وقريباً ربما نرى جثث تخرج من مياه الصرف الصحي إثر انفجار إحدى المواسير، أو ربما تجد في طريقك ذراع ﻷحد الأموات، فتركلها بعيداً، وتواصل المسير، ونظل نلهث في دائرة مفرغة كأننا روبوتات سيئة الصنع، تعطلت معالجاتها الرقمية، أو أخطأ أحد المبرمجين في كتابة الكود، كل شيء محتمل، طالما أن إحدى الأمهات ذات يوم أرسلت بناتها الخمس، فجاءها خبر غرقهم، وهن في طريقهن لنيل القليل من التعليم، ربما كانت لهن أحلام بوضع أفضل، ربما كنّ يحدثن أمهن في إحدى ليالي السمر عن مكانتهن الوظيفية، أو وضعهن الاقتصادي في المستقبل، فنحن شعب لا يتوقف عن الأحلام، لنا أحلامنا الخاصة، التي نواجه بها الواقع المرير، ونصبر بها على الفوضى والعبث، ونتسلى بها ونحن في إحدى الصفوف، ﻻ زاد لنا في هذه الأوطان غير الأحلام، ﻻ شيء غير الحلم الذي يبقينا على قيد الأمل.
  

عندما أحدثك عن الثلاث طفلات اللائي لقين حتفهن بعد انهيار فصل دراسي فوق رؤوسهن، وأحدثك عن الطالب في الثانوية الذي مات أمام أعين زملاءه بالتماس كهربائي، فلا تظن بأني أسرد لك معاناة المواطنين في دارفور أو إحدى الولايات النائية، أنا أحدثك عن كوارث تقع في قلب العاصمة المثلثة، داخل الخرطوم، الخرطوم المكتظة، التي تكاد تنفجر من الكثافة السكانية، فبعض ولايات الوطن ﻻ تجد هذا الترف، لا توجد فصول أصلاً حتى تنهار، لا كهرباء حتى تصعق أحداً، ولكن طبعاً لابد من مآسي، لا يمكن أن نختص منطقة بالمآسي دون غيرها، ففي حين أنه ﻻ توجد طرق يسلكها الطلاب من منازلهم للمدارس، يستقلون قوارب صغيرة، ليموتوا، الموت غرقاً هو الحل الأنسب للعدالة الدموية.

يحدق الشعب حائراً في الوضع، وكأنه ابن غير شرعي لحكومة ﻻ تأبه، ولا تبرر حتى، وهو يعلم أن الخروج ﻻ يجدي، والجلوس لا يجدي، لذا يضحك، ويخترع النكات السمجة. عندما اغتيلت بلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قباني في تفجير السفارة العراقية، كتب نزار وقال:

بلقيسُ
أسألكِ السماحَ، فربَّما 
كانَتْ حياتُكِ فِدْيَةً لحياتي
إنّي لأعرفُ جَيّداً
أنَّ الذين تورَّطُوا في القَتْلِ، كانَ مُرَادُهُمْ 
أنْ يقتُلُوا كَلِمَاتي


ونحن الأن بعجزنا عن فعل شيء، نسأل الأطفال السماح، فربما كانت أرواحهم فداءً ﻷرواحنا، فداءً لجبننا وقلة حيلتنا. هم لم يموتوا، فما الموت إلاّ بداية لذكريات ﻻ تموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.