شعار قسم مدونات

في ذكرى المذبحة.. الإخوان والأخطاء القاتلة

blogs - rabaa

في رابعة قدر الله لي أن أكون موجودا يوم الفض أعيش لحظاتها الطويلة كما عاشها الجميع حينها، وأشاهد أحبة لي وهم يسقطون بين شهيد وجريح ولا زلت على هذا الحال حتى أصابتني رصاصة غادرة في ظهري من أحد القناصة عند المنصة قبيل الغروب وظللت أنزف ساعات طويلة حتى أخرجت من الميدان ولكن الرصاصات كانت تنهال علينا من الكمائن حتى استطعت الوصول الى مكان آمن وللقصة تفاصيل كثيرة ليس محلها هذا المكان.

تأتي الذكرى وقد وصل الوضع الداخلي في مصر إلى أسوأ مراحله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، دون أفق واضح للحل أو للتعامل مع الأزمة التي تخنق البشر والحجر والشجر، وتبدد المستقبل وتهلك الحرث والنسل. تأتي الذكرى والمعارضة المصرية في الداخل والخارج في وضع لا تحسد عليه، انقسام لمذاهب شتّى متناحرة، وانكفاء على الذات، وضياع للبوصلة والهوية والقيمة، مع غياب القائد والرمز والقدوة والمشروع. والسؤال الذي لا يغيب عني، هل كان من الممكن اجتناب المجزرة ومنع حدوثها؟

في رأيي الإشكالية التي وقعت فيها قيادة المعارضة أو الثورة وقت الاعتصام وهو خطأ استراتيجي قاتل يتلخص في سوء تقدير الموقف طيلة حكم الدكتور مرسي من استبعاد سيناريو الانقلاب العسكري رغم الرسائل المتعددة التي وصلتهم تحذر من ذلك ومن جهات موثوقة ومحترفة لكن استمر سوء التقدير حتى وقع الانقلاب ولست هنا في معرض التفصيل في هذه النقطة ولكني ذكرتها لأن هذا الخطأ القاتل كان أحد الأسباب الرئيسية في رفع تكلفة الاعتصام بهذا الشكل.

كان هناك طريق ثالث وسط كان يمكن عن طريقه اجتناب المجزرة أو تقليل خسائرها في الأرواح للحد الأدنى وهو الانسحاب التكتيكي الذي يقيك المواجهة التي لست مستعدا لها

من البديهيات المنطقية أن ميزان القوة بين الدولة والمعتصمين مختل بشكل لا يسمح لحد أدنى من العقل بأن يفترض أن المعتصمين يمكن أن ينتصروا على الدولة بمؤسساتها وقوتها، وبالتالي نكون أمام الخطأ الاستراتيجي القاتل الثاني هل كان من الحكمة تجميع كتلتك الصلبة كاملة في مكان واحد وغير حيوي!، وسط محيط ميداني يتحكم فيه النظام الانقلابي كاملا؟ وهذا سوء تقدير للموقف ثاني لأنك عمليا حصرت الثورة في ميدان رابعة حتى لو كانت هناك تظاهرات في عدة محافظات أخرى مهمة إلى أن كتلتك الصلبة كان غالبها في الميدان أي أنك سهلت على النظام دون أن تقصد عملية الاحتواء والسيطرة على الكتلة الأهم في الحراك.

حتى هنا ويمكن أن نختلف أو نتفق حول الجدوى من الاعتصام حينها وفي هذا المكان تحديدا ربما أكون مخطئا أو على صواب ليست هذه هي الإشكالية الأساسية في هذا المقال. وهنا ننتقل الى الخطأ الاستراتيجي الثالث والقاتل كذلك وهو غياب الرؤية والاستراتيجية للتعامل مع الأزمة رغم أنه كانت هناك سيناريوهات متعددة للتعامل معها أنتجها عدد من الباحثين وكنت واحدا منهم، لكن متخذ القرار لم يجرؤ على تنفيذ أي منها فلا هو قادر على المواجهة ولا قادر على الانسحاب حتى لا يخذل أنصاره ومؤيديه.

لكن كان هناك طريق ثالث وسط كان يمكن عن طريقه اجتناب المجزرة أو تقليل خسائرها في الأرواح للحد الأدنى وهو الانسحاب التكتيكي الذي يقيك المواجهة التي لست مستعدا لها أو يظهرك وسط انصارك بالمتراجع، كان يمكن الإعلان عن نقل الاعتصام لمكان آخر لسحب الناس من الميدان وبكل تأكيد لن يسمح لك النظام بنقل الاعتصام وتكون قد انهيته دون اعلان ذلك ويتفرق الناس حتى لو استخدم العنف معهم فسيكون بكل تأكيد محدود لأن اشتباكات الشوارع لا تسمح له بالسيطرة الكاملة كما في حالة الاعتصام.

كان يمكن كذلك الخروج من الميدان بتظاهرات ضخمة تسحب معظم المعتصمين من الميدان لأماكن مختلفة وعندما يجد الأمن الميدان شبه فارغ ستتم محاصرته ويمنع المتظاهرين من العودة اليه وبالتالي تتفرق الجموع وتحقن دماءها أو تقل خسائرها للحد الأدنى. هذه الحلول كانت ستحافظ على قوتك وتعيد انتشارها في المحافظات وتحقن بها كثير من الدماء وتعطيك فرصة لاستكمال رؤيتك لمواجهة الانقلاب.

وحتى لو بدء النظام في اعتقال الناس من البيوت فعندها كان سيفعلها وهو خائف مرتبك لم يستقر بعد وفي كل الأحوال سيكون الوضع أخف وطئه من المجزرة، كما أن خروج التظاهرات بقوتك الأساسية في المحافظات وصدها لقوات الأمن كان سيجعل الثورة حدث شعبي ينتقل من محافظة الي محافظة ومن المدينة الى القرية وتدخل مصر في حرب استقلال حقيقية ضد الاحتلال العسكري ووكلاءه.

ولكي تتأكد من صحة ما أقول أذكركم بأن تظاهرة رمسيس ارتقى فيها نحو ٧٠ شهيدا فقط رغم أن اعداد المتظاهرين كانت تفوق أعداد المعتصمين بالميدان في أيام كثيرة، لكن تعامل القوات مع مجموعات متحركة في الشوارع أصعب بكثير مع كتل بشرية ساكنة في مكان واحد. سيحاول البعض الطعن في المقال بأنه ليس هذا وقته وأن القيادات مغيّبين في السجون ليشعل جدلا سفسطائي عاطفي لا تحقن به دماء ولا يحاسب عليه مقصر ولا يسترشد به في المستقبل.

يظلّ هناك أمل لا يغيب بعد الله، في رجال لم ينسوا قضيتهم ولم يتاجروا بها، يصلحون الدفة ويرسمون الطريق ويصلحون السفينة، لا يضرهم من خذلهم أو خذّلهم، هم البنائين العظام
يظلّ هناك أمل لا يغيب بعد الله، في رجال لم ينسوا قضيتهم ولم يتاجروا بها، يصلحون الدفة ويرسمون الطريق ويصلحون السفينة، لا يضرهم من خذلهم أو خذّلهم، هم البنائين العظام
 

وحتى تعلم كارثة ذلك لأنه لم يجري تقييم ومراجعة لما حدث في رابعة بسبب هذه الدعاوي تكرر ما حدث بشكل مصغر في رمسيس!، لقد خرج مئات الألوف في تظاهرة مليونيه ضخمة امتدت لكيلومترات وعندما بدء الأمن بالتعامل معها بعنف وسقط الشهداء طالبتهم قيادة الثورة بالانسحاب والتراجع وكأنك فوجئت باستخدامه العنف! رغم أن مجزرة رابعة لم يكن قد مضي عليها سوى أيام قلائل واباد فيها النظام المجرم البشر والحجر وأحرق الأحياء والأموات، فلماذا أخرجتهم دون حماية ودون رؤية واضحة وطالبتهم بالتراجع حين بدء باستخدام العنف ليعتقل المئات يومها ولا زالوا معتقلين!، ويستشهد العشرات أثناء انسحابهم!

إن عوامل الثورة ومسبباتها كلها مجتمعة في الحالة المصرية الآن، وما لم يكن هناك عبرة واستفادة من دروس الماضي وتربية لجيل الشباب الثائر فلن نراوح أماكننا حتى تجري علينا سنة الاستبدال. إن كثيرين من رموز الثورة الآن كانوا جزء من مشهد رابعة وما تلاه لم يعترفوا بخطأ أو تقصير بل يظنون أن لديهم الحكمة الكاملة والعقلية الفذة ولأن الحساب غائب وصلت الثورة الي ما آلت عليه من توقف أقرب الى الموات، فلو جلست مع نفسك في لحظة صدق تعدد ما تم إنجازه فعليا على الأرض لم تجد منجزا واحدا ملموسا، اللهم الا قصص الثبات والبطولة للمعتقلين واسرهم، وهذا الثبات محض توفيق من الله، أما بمقاييس الواقع فلا منجز حقيقي تم لصالح الثورة بل تراجع في كل الملفات.

ويظلّ هناك أمل لا يغيب بعد الله، في رجال لم ينسوا قضيتهم ولم يتاجروا بها، يصلحون الدفة ويرسمون الطريق ويصلحون السفينة، لا يضرهم من خذلهم أو خذّلهم، هم البنائين العظام، صانعي المجد لأمتهم، لا يعرفون اليأس ولا يستكينون لضعف أو عجز، ولا تخور عزائمهم في منتصف الطريق، كثير منهم كصاحب النقب لا يعرفهم الناس ولكنّ الله يعرفهم ويحفظهم بحفظه.

هؤلاء هم الأوفياء بحق لدماء الشهداء، تصنعهم حاليا الشدائد والمحن داخل سجون الطاغية وخارجه، في زاوية ما من أرض مصر وفي أحد بيوتها العتيقة، ربما يعيش بعضهم مطاردا أو مهاجرا خارج الوطن، لكن قلبه وروحه وعقله لا يزال فداءا لهذا الدين وهذا الوطن. هؤلاء هم مآذننا العالية التي ستصدع بالنداء يوما ما، ويلتف الناس حولها لاجتثاث الطاغية وإعادة الحرية والعدل لهذه الوطن المنكوب، اللهما أصنعهم على عينك وأكلاؤهم برعايتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.