شعار قسم مدونات

مغتربون في وطنهم.. بعيدون عن أحلامهم

blogs - travel

موطني.. الشباب لن يكل.. همه أن يستقل.. كلماتٌ راسخةٌ في العقل وثابتةٌ في الروح، وأبياتٌ شعرية تحولت من مجرد كلماتٍ أدبية، إلى أناشيدٍ وطنية ورمزٍ للثورة والوطن، لم تكن في بدايتها سوى قصيدةٍ خرجت من وحي أديبٍ يحب وطنه، لا يملك في يده سلاح للدفاع عن قضيتهم سوى هذه الأبيات التي كتبها لتكون لسان تعبير عما يجوب في خاطره من حنين لوطنه وغيرة على أرضه وحرصاً على قضيته، فباتت هي وغيرها من القصائد تراثاً يتغنى به في كل المناسبات، وورثاً يردده الشباب جيلاً بعد جيل.

كنت أردد هذه الكلمات دائماً وبلا وعيٍ مني، أصبحت عالقةً في ذهني، ولكن كلما استمعت إليها أشعر بأنها موجهةٌ لي وتقصدني بقولها (لا نريد ذلنا المؤبدا بل نعيد مجدنا التلّيد) ولكن ليس بعد الآن، فأيقونة الثورة التي كان يتغنى بها الشباب أصبحت مجرد كلماتٍ من الخيال لا تعبر عن الواقع، فالذل بات مؤبداً والشبابُ كلّ ومل واستعادة المجد مشوارٌ مجهول. لنبتعد قليلاً عن جمال الكلمات واللحن ولنتعمق في معانيها، لنعكسها لتصبح أكثر واقعية. الآن باتت الحقيقة مكشوفة. فبعيداً عن الكلمات التي تشحذ الهمم، وترفع المعنويات، وترسم للشبابِ خطواته إلى الأمام وترتقي به إلى العلا، وتصبره على واقعه المرير بجرعات صبرٍ فارغة، إلا أن الواقع مخالفٌ تماماً؛ يشهد حالة الانكسار، والبؤسِ، والبطالة، الأمر الذي ساعد في إلقاء العتمة على رونق جمال الكلمات. فما كان إلا أن المستقبل الموعود باتت رؤيته ضبابية، وأحلام الشباب لا تجد لها مكاناً وجميع الأبواب التي كانت مفتوحة أمامهم ويرون من خلالها مستقبلهم أغلقت في وجوههم وتحولت إلى جدار عازل، يحول دون وصولهم إلى مبتغاهم، ويتركهم في ظلمات دون نور يتخبطون مع ظروف الحياة في صراع دائم من أجل البقاء.
   

ازدادت ظاهرة الهجرة للشباب وجيل المستقبل الذي يسعى إلى التغيير، ولكن يبقى اغترابهم في وطنهم سبباً رئيسياً لدفعهم إلى دائرة الإحباط والابتعاد عن أحلامهم

في أوطاننا أصحاب القول كثيرون يمجدون الشباب في خطاباتهم؛ مؤكدين على أهميتهم بأنهم عمود الوطن وأساس كل مجتمع وعماد الأمة. لكن قليلون أصحاب الفعل من يعملون على تمهيد الطريق للشباب ولطاقة المستقبل، فتتحول طريقهم المخصصة للأحلام الوردية من طريق ورودٍ إلى طريقٍ شائكةٍ مليئةٍ بالأشواك، تقتل كل من يسير بها. فلا يبقى بيد الشباب حيلةٌ سوى الابتعاد عن طريق الوطن واختيار طريق الضياع، الذي جُهز خصيصاً لخطف الشباب وسرقة أفكارهم واغتيال عقولهم، كان طريق الهجرة معروف لدى الغالبية بأنه طريق النجاة الوحيد، فرأوا فيه غايتهم لتحقيق أحلامهم وحياتهم وذاتهم التي فقدوها في أوطانهم. لم يكن هناك بدايةٌ لهذه المأساة ولم تبرز النهاية كذلك، طريقٌ وعرةٌ مليئةٌ بالمتاهات والضياع الأكبر من ذلك الذي هربوا من أوطانهم لأجله، بدأوا المسير في مغامرة الهجرة بلا عودة؛ للبحث عن أحلامهم التي تخلوا عن كل شيء في سبيل إيجادها في بلاد الغربة.
  

من الصعب نسيان الأزقةِ الضيقةِ المليئةِ بعبقِ الذكريات في كل زاوية، وليس من السهل تخيل حياة المرء بعيداً عن عائلته وأصدقاء طفولته والذكريات السعيدة وغيرها، وكيف يعيش المغترب بعيداً عن مكانه الذي اعتاد التواجد فيه، فكل ركنٍ من أركان المدينة شاهد لطفولته وذكرياته. ولكن فات الأوان على استرجاع الماضي للذاكرة، فقد فُقِدَت حواسه وتجاهل كل شيء ولم يعد بقدرته سماع أصوات مدينته التي تبكي دماً كل يومٍ على فقد أحد أبنائها، منهم الشهيد والأسير والجريح والمغترب، فضاع منا الوطن وضاع بعده كل شيء. لاتزال أحلامُ الكثير من الشباب، مرتبطةً باليوم الذي يحققون فيه الكرامة والحرية، ويتصالحون مع أوطانهم التي طالما عانوا فيها الغربة وغياب حقوقهم، بعد تعرضهم لتهميشٍ حقيقي ٍّ، وبطالةٍ وشعورٍ مغلفٍ بالاغتراب داخل الوطن الذي يبدد قدراتهم، ويستبدل طموحاتهم بخيبة أمل معقودةٍ على أعناقهم، تجرهم نحو مستنقع الإحباط من الواقع المعاش. هؤلاء الشباب اليافع الذين قضوا مسيرتهم التعليمية في ظل ظروفٍ ماديةٍ من المنصف تسميتها بالمعدومة، ففي مجتمعاتنا التعليم طوقُ نجاةٍ للعائلاتِ من الفقر ووسيلة الحصول على لقمةِ العيش، والعلم هو سلاح الفقراء في وجه أي شيء. لكن الواقع ملئ بالتهميش لهذه الفئة الفعالة المليئة بالطموحات والأحلام، وسيصطدم الشباب بحائط عاطلين عن العمل، والحرمان من الفرص الذهبية التي يحصل عليها غيرهم من الشباب في بلاد أخرى.

نعلم جيداً بأن الغربة هي الابتعاد عن أرض الوطن والأهل، ولكن ما هو شعور الغربة الذي ينتاب الإنسان وهو وسط أهله، وأحضان وطنه

ومن هنا ازدادت ظاهرة الهجرة للشباب وجيل المستقبل الذي يسعى إلى التغيير، ولكن يبقى اغترابهم في وطنهم سبباً رئيسياً لدفعهم إلى دائرة الإحباط والابتعاد عن أحلامهم، والوقوع فريسةً للواقع المرير الذي يقتل طموحهم ويدفعهم إلى طريق اليأس والآلام والمأساة، والشعور بأنهم موجودون في مكان محاصرٍ بالقيود، فيصبح هدفهم التخلص منها وكسرها والهروب بعيداً عن الوطن والأحلام. لا يمكن تخيل الحياة المخيفة التي يعيشها الشباب من بطالةٍ وفقرٍ وتهميشٍ وتكميمٍ للأفواه، وكيف أصبح الواقع والمسؤول عن هذه المأساة قاتلاً متسلسلاً يقتل كل يوم الكثير من الأحلام والكثير من الأرواح. بعد كل ما عايشوه في رحلة التفتيش عن الذات، والعيش في حالة الاغتراب الذاتي في مجتمعاتهم الذي يعبر عنه الفرد عادةً بسلوكٍ لا يوافق المجتمع كالسلبية واللامبالاة والعنف والجريمة، والوقوع ضحيةً للفساد والانحطاط، يملأ الفراغ حياتهم ويجد الشباب فجوةً بينهم وبين المحيط من حولهم وبقائهم في دائرة الإحباط وإلياس وفي مرمى السهام السامة المليئة بجرعات الاغتراب الاجتماعي والهروب من الواقع المرير إلى بلاد الرفاهية. مصير الشباب في أغلب البلاد العربية مجهول، والكثير منهم يواجهون ذات المصير وينتظرهم نفس المستقبل والواقع الذي يهدد الجميع، ويدفعهم باختيار ذات الطريق، فلا يجدوا مهرباً إلا عن طريق الهجرة لبلادٍ تختلف بعاداتها ولغتها وثقافتها، وسيكونون مجبورين على التكيف مع هذه البيئة وتعلم كل شيء من نقطة الصفر، للوصول إلى حياةٍ مستقرةٍ تضمن وجودهم وتحقق ذاتهم.
  
مشاعرٌ مفقودةٌ وأرواحٌ تائهةٌ وأفكارٌ مشتتةٌ وأوضاعٌ صعبةٌ مأساوية، وحالةُ الأمن المهدد والتشريد والضياع، كانت سبباً في جعل العيش في الوطن غربة، لم يعد هناك أي سببٍ مقنعٍ للتمسك بالوطن، فليس هناك بديل سوى انتظار دورهم في الجوع أو الموت، فالموت في بلاد الغربة أفضل من الموت البطيء في الوطن. نعلم جيداً بأن الغربة هي الابتعاد عن أرض الوطن والأهل، ولكن ما هو شعور الغربة الذي ينتاب الإنسان وهو وسط أهله، وأحضان وطنه، ما بال الجميع امتلك نفس المشاعر وبنفس الوقت. كيف تمكنت الأوضاع من تفريق الأب عن أبناءه وذهابه مجبراً إلى أقصى الشرق ليصارع من أجل أن يجد سبيلاً له ولعائلته للعيش باستقرارٍ وحياةٍ كريمة.

  

كيف لطفل لم يتجأو16عاماً أن يترك عائلته التي تقف عاجزةً على صده عن السفر وتركهم وحيدين، وكيف كانت هذه الظروف سبباً في قتل الحب بعد أن صعبت الظروف ولم يعد بالإمكان الاستمرار في العلاقات. كيف تُركت هذه الطفلة الصغيرة خلف هذه الأسوار بلا أبٍ لتكبر بذاكرةٍ تخلو من والدها ولا تتذكر سوى نظرتها التي كانت ترمُق بها والدها عندما ذهب مودعاً إياهم وهو في طريقه للذهاب إلى رحلة الآخرة بعد أن انقلب به مركب الموت، لم يكن الوحيد الذي سافر إلى السماء فقد كان كحالة الآلاف ممن كانوا يحاربون من أجل الحياة. الغربة بحد ذاتها شعورٌ قاتلٌ، فما بالك بغربة المشاعرِ والروح عندما يُغتال ما بداخلنا، ويَجتاح اليأس أعماقنا، ويبقى القلق والصمت دافعنا للبحث عن مصيرٍ مجهول، وكيف تهفو النفس إلى شيءٍ لا تجده، ويرنو البصر نحو أفقٍ لا نهاية له، وكيف أصبحت اللغة التي يتحدث بها الجميع غير مفهومة، هل انتهى الطريق باغترابِ النفس وتبخرِ الأحلام تحت وطأةِ الواقع، ومتى يحين وقت عثورنا على حقيقتنا المفقودة ونتخلص من كابوس مغتربين عن وطنهم بعيدين عن أحلامهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.