شعار قسم مدونات

عن الوعي.. هل يمكننا قراءة دماغ الإنسان؟

blogs تفكير، تأمل

إذا كانت الشمس تملك القدرة على الكلام، فهل بوسعها القول بأن ما يُمكن رصده من التفاعلات الفيزيائية في داخلها ليس هو كل شيء، وإنما هُناك أيضا خبرتها الذاتية لهذه التفاعلات والتي تختلف نوعيا عن كل ما يُمكن رصده، وهل كان بوسعها القول أن خبرتها الذاتية للجاذبية هي شعور مختلف عن أدق النظريات العلمية التي تصف وتفسِّر الجاذبية؟ لا يُمكننا أن نعرف الحقيقة فيما يتعلق بالشمس أو النجوم أو الأرض أو حتى الأشجار (لنغض الطرف عن الحيوانات هُنا لأنها ستعقد الموضوع أكثر، سنكتفي بالإنسان)، ولكن بالنسبة للإنسان هناك مفهوم الذاتية والذي مفاده أن كل ما يُمكن رصده من تفاعلات عصبية وكيميائية في دماغ الإنسان هو شيء مختلف نوعيا عن خبرات الإنسان الذاتية.

     

مثلا إذا افترضنا أن هُناك من يرصد دماغي الآن بحيث يستطيع أن يرى كل التفاعلات المادية التي تجري داخله، فإن ما يرصده سيكون شيئا مختلفا نوعيا عن الأفكار التي أفكر فيها الآن، والمشاعر التي أشعر بها. كذلك إذا تخلينا أن هُناك من يرصد دماغك الآن وأنت تقرأ هذا الكلام فهو قد يرى كل شيء يجري داخل رأسك ولكن من الناحية المادية فقط. لن يرى تفكيرك في هذا الكلام لذي تقرأه الآن، لن يرى موقفك الذهني منه فهما أو اتفاقا أو اختلافا، ولن يرى الأفكار أو الاحاسيس التي قد يثيرها هذا الكلام. ولكن أذا كنت أنا وأنت مثل الشمس أو أيا من الموجودات الأخرى التي لا تملك لغة ولا تتكلم فمن الذي يُمكنه أن يخمِّن بأن هُناك ظاهرة اسمها الوعي والخبرة الذاتية موجودة بمعزل عن أي شيء يُمكن رصده من تفاعلات داخل أجسادنا.

   

إذا تم اكتشاف أي شيء يُمكن رصده وكان مختلفا عن المادة كما نعرفها، فحينها لن يكون هُناك عُنصر جديد بالكون مختلف عن المادة، عنصر غير مادي، وإنما الذي سيحدث هو أن مفهومنا للمادة سيتسع ليشمل هذا العُنصر الجديد

نظريا، هُناك ادعاء بأنه من حيث المبدأ ليس هناك ما يمنع رصد كل شيء بما في ذلك الخبرات الذاتية، وأنه إذا لم يتمكن الإنسان من رصدها فإن ذلك لا يعني أنها "غير مادية"، وإنما يعني فقط قصور أدوات الرصد والملاحظة بحوزتنا. معنى هذا الادعاء هو أنه لا الشمس ولا الإنسان ولا أي كائن آخر بوسعه الادعاء بأن خبراته الذاتية تقع من حيث المبدأ خارج متناول الرصد الموضوعي. هذا الاعتراض هو اعتراض خال من المعنى، انه بعبارة أخرى يقول "ليس هناك تناقُض إذا افترضنا أنه يُمكن من حيث المبدأ رصد ما يُدعى بالخبرة الذاتية" وهذا النوع من العبارات التي تقوم فقط على مبدأ عدم التناقض هي تحصيل حاصل ولا تقول شيئا عن الواقع. فتجنشتاين صنف المنطق كله تحت هذا الباب، القضايا التي لا معنى لها، لأنها لا تقول شئيا عن الواقع.

 

عندما نقول كلمة مادي، مثلا "العالم المادي" فإن هذه الكلمة لها معنى محدد في حدود العلم البشري الراهن، العالم المادي مكون من ذرات وجسيمات في حقول من القوى المختلفة. كلمة مادي لا تشير الى كل ما يُوجد بمعزل عن الذهن، وإنما إلى ما نعرفه بالفعل عن المكونات الأولية لهذا العالم (العالم كما نعرفه وليس العالم في ذاته الذي هو مجرد افتراض ميتافيزيقي). وبالتالي فإن مفهوم اختزال الخبرة الذاتية أو ظاهرة الوعي عموما إلى المادة تشير الى اختزاله الى المادة وفقا للمعنى المعروف لكلمة مادة، أي اختزاله إلى المادة التي نعرفها وليس الى شيء آخر لا نعرفه ونسميه مادة مع ذلك.

    

إذا تم اكتشاف أي شيء يُمكن رصده وكان مختلفا عن المادة كما نعرفها حتى الآن، فحينها لن يكون هُناك عُنصر جديد في الكون مختلف عن المادة، عنصر غير مادي، وإنما الذي سيحدث هو أن مفهومنا للمادة سيتسع ليشمل هذا العُنصر الجديد. لنفترض مثلا أنه تم رصد الوعي كشيء يشبه غشاءً في منتهى الرهافة يطفو حول الدماغ الإنساني ويشتمل بطريقة على جميع الخبرات الذاتية التي يختبرها الإنسان، حينها سيكون هُناك مكوِّن جديد يوسِّع من مفهومنا للمادة. ولكن الاختزاليون عندما يتكلمون عن الوعي كشيء ناتج كُليا عن الدماغ لا يتكلمون عن إمكانية وجود مادة من نوع آخر غير مكتشف، وإنما يقرون بالرؤية العلمية الحالية: العالم مكون من ذرات وجسيمات وحقول قوى، وكل ما عدا ذلك فهو إما ناتج عن تفاعلات، أي يمكن اختزاله إلى المادة التي نعرفها، أو أنه مجرد وهم.

   

ادعاء أن الوعي هو مجرد خاصية للدماغ، مجرد نتيجة لتفاعلات تحدث في الدماغ يعاني من إشكالية يمكن صياغتها كالتالي، هناك نتائج لتفاعلات مادية ولكنها ذات طبيعة غير قابلة للرصد
ادعاء أن الوعي هو مجرد خاصية للدماغ، مجرد نتيجة لتفاعلات تحدث في الدماغ يعاني من إشكالية يمكن صياغتها كالتالي، هناك نتائج لتفاعلات مادية ولكنها ذات طبيعة غير قابلة للرصد
  

وعلى أية حال، فحتى الأوهام ليست أوهاما، بمعنى أن الأنسان الذي يتوهم لا يُمكن أن يكون يتوهم بأنه يتوهم، وإنما هو فعلا يتوهم، أي الوهم هو واقعة من واقعات العالم الموضوعي حتى لو كان كاذبا. إذا تم رصد دماغ إنسان يهلوس فالذي يُمكن رؤيته هو اختلالات في كيمياء الدماغ أو ما شابه، ولكن ليس الأوهام التي يعيشها. يُمكن للأوهام أن تختفي بعقار طبي، كما أنها يُمكن أن تحدُث بسبب عقار طبي أو عقار مخدر، ولكن كيف يُمكن الادعاء بأن "تجربة الوهم" كشيء يعيشه الانسان يُمكن اختزالها كليا إلى الأسباب التي سببتها؟

لماذا إذن لا يُمكننا رصد هذه الأوهام بشكل موضوعي، تمثيلها وتصويرها وعرضها في شاشة مثلا. في ظل افتراض وجود الوعي كشيء مستقل عن الدماغ وإن كان يتفاعل معه بطريقة لا نعرفها، يمكن بسهولة حل هذا الإشكال، يمكن تصور مثل هذا الأمر: لا يُمكن رصد الأوهام أو أي تجارب ذاتية أخرى، لأنها موجودة في كيان قائم بذاته مستقل عن الدماغ هو وعي الإنسان أو نفسه.

 

يُمكن تلخيص كل هذه المناقشة كالآتي. إن ادعاء أن الوعي هو مجرد خاصية للدماغ، مجرد نتيجة لتفاعلات تحدث في الدماغ يعاني من إشكالية يمكن صياغتها كالتالي، هناك نتائج لتفاعلات مادية ولكنها ذات طبيعة غير قابلة للرصد. أو بعبارة أخرى هناك أسباب موضوعية ولكنها لا تنتج نتائج موضوعية. وهذا الكلام يشبه القول مثلا بأن هذا التفاعل الكيمائي ينتج شيئا لا يُمكن رصده، ولكن لو كانت التجربة الكيميائية تتكلم لقالت بأنها تشعر بنتائج ذلك التفاعل في شكل خبرة ذاتية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.