شعار قسم مدونات

الاستغلال السياسي للثقافة في الجزائر!

blogs الجزائر

ما من مجال من المجالات المختلفة في الجزائر إلا وتطاله يد السياسة. والتوظيف السياسي لعديد من المجالات أمر معروف حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية، إلا أن هذه الآلية عندنا تشتغل في أدنى مستوياتها لتنم على سذاجة سياسية ومعرفة طفولية بإدارة المجتمعات وتوجيه الرأي العام. الثقافة هي إحدى المجالات التي لم تسلم من التوظيف الايديولوجي والغطرسة السياسية.

 

فمند الاستقلال كانت الثقافة ولا تزال آلية يحاول من خلالها النظام التحكم في عقول الجزائريين وتوجيههم شطر مقاصده ومراميه. فمن السينما إلى المسرح إلى الموسيقى، إلى الشعر والرواية، إلى الفنون التشكيلية، بذل النظام مجهودات كبيرة لاحتواء هذه الفنون وتوجيهها لتخدم قضية واحدة هي الإشادة بالثورة الجزائرية وتمجيد أبطالها، بما يتوافق مع التاريخ الرسمي للنظام.

 
لم يكن بوسع أي فنان، في أي مجال كان، أن يسلك طريق النجاح إن لم ينل بركة النظام، ويخدم التوجه السياسي والأيديولوجي للنخبة الحاكمة. وتجدر الإشارة هنا إلى التهميش والإقصاء الذي عانى منه الفنان أحمد صابر، الذي زٌجّ به في السجن، في ستينات القرن الماضي، وصودرت كل أسطواناته وأصبحت أغانيه ممنوعة في الإذاعة الوطنية آن ذاك، فقط لأنه حاول أن يحاكي في أغانيه مشاكل ومعاناة المواطن الجزائري.

الاحتجاجات التي شهدتها ولايات الجنوب الجزائري مؤخرا، والتي تحمل في ظاهرها بعدا دينيا، فما هي في الحقيقة إلا ردود أفعال نابعة من معاناة مريرة لسكان الجنوب ضدّ التهميش والإقصاء

أما الأغنية القبائلية التي كانت رمزا للتمرد على النظام الجزائري فقد عانت هي الأخرى من التهميش والإقصاء. وقد كان الإفراج عن أغاني الراي، التي كانت ممنوعة من البث الإذاعي والتلفزيوني في سبعينات القرن الماضي، آلية من آليات النظام لصدّ الشباب عن الأغنية القبائلية التي أقضّت مضجعه. فبحث النظام عن أشياء بديلة لمجابهة الأغاني السياسية والاجتماعية الملتزمة، فلم يجد في كنانته سوى أغاني الراي الماجنة التي تمثل تحدّ للمجتمع المحافظ وتكسر كل الطابوهات الأخلاقية.

الحفلات الغنائية والمهرجانات الضخمة التي يصرف عليها النظام أموالا طائلة تدخل هي الأخرى في زمرة آليات التضليل. فالنظام لا يهتم لكون العمل الفني راقي أو منحط، بقدر ما يهتم بالشغف الجماهيري بهذا المطرب أو ذاك. وإذا كان النظام يدعي أنه يرمي، من خلال إقامة هذه الحفلات، إلى إمتاع الجماهير الشعبية، فإنه في الحقيقة يسعى إلى توجيه أنظار هذه الجماهير عن الأزمات الحقيقة التي أخفق في تخطيها. فعامة الشعب الجزائري في حاجة ماسة إلى تلبية حاجياته الضرورية من سكن ووظائف وخدمات صحية أكثر من حاجته إلى مثل هذه المهرجانات. ثم أن هذه الحفلات تعطي انطباعا للرأي العام الأجنبي أن ما يروج من سلبيات عن الجزائر هو مجرد شائعات.

أما الاحتجاجات التي شهدتها ولايات الجنوب مؤخرا، والتي تحمل في ظاهرها بعدا دينيا، فما هي في الحقيقة إلا ردود أفعال نابعة من معاناة مريرة لسكان الجنوب ضدّ التهميش والإقصاء وتردي الأوضاع الاجتماعية في هذه المناطق، ونقص الخدمات الاجتماعية، والبطالة، خصوصا إذا أخذنا في الحسبان قساوة المناخ.

الدولة توظف أسوأ ما في كنانتها الثقافية من عفن لتضلل الجماهير الشعبية، وهذه الأخيرة تتصدى لهذه الرداءة بالاحتماء خلف الدين، فلا الفن فن ولا الدين دين في هذه اللعبة بين النظام والشعب
الدولة توظف أسوأ ما في كنانتها الثقافية من عفن لتضلل الجماهير الشعبية، وهذه الأخيرة تتصدى لهذه الرداءة بالاحتماء خلف الدين، فلا الفن فن ولا الدين دين في هذه اللعبة بين النظام والشعب
 

التعبير عن رفض إقامة الحفلات الغنائية من خلال الصلاة في الأماكن المخصصة لهذه الحفلات يمكن أن نعتبره سلوكا حضاريا، واحتجاجا سلميا تجنبا لأعمال الشغب وتحطيم الممتلكات العمومية الذي عادة ما يصاحب هذه الإحداث، لكنه لا يصدر عن عقل واع بحقيقة الأزمات التي يتخبط فيها المجتمع. وإذا كان الشعب قد قاطع الحفلات الغنائية من منطلق وعيه بآليات النظام وكشفه لألاعيبه، فأولى به أن يقاطع مباريات دوري كرة القدم لما تخلفه من فوضى اجتماعية ولما يٌهدر فيها من أموال الشعب. وأتمنى أن أرى تلك الجموع التي أقامت الصلاة ضدّ حفلات الفسق والمجنون، كما وصفوها، تقيم الصلاة أمام ملاعب كرة القدم ضدّ العنف والجرائم التي ترتكب في الملاعب، وضدّ الأموال التي تٌهدر في هذه التوافه.

الدين في المجتمع هو بمثابة الدرع المقدس الذي يلجأ إليه الكل للاحتماء من جميع الأخطار المحتملة.. فحين يشعر النظام بخطر ما يداهمه يحتمي بالدين، فيلبس رداء الزوايا ويتقرب زلفى لأضرحة الأولياء. أما عامة الناس فالتدين عندهم ممارسة ثقافية أكثر منها عقيدة صحيحة وسليمة. ولا أعتقد أن الاحتجاج عن طريق إقامة الصلاة كان عملا حزبيا منظما، بل أكاد أجزم أنه كان سلوكا عفويا وآلية من آليات الاحتماء، لأن الجماهير الشعبية تعلم يقينا أن قوات الأمن لن تجرؤ على الاقتراب من المصلين المحتجين.

ثم أن برمجة حفلات غنائية في الوقت الذي اشتعلت فيه نيران الاحتجاجات الشعبية للمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية بولايات الجنوب، هو قرار ينم عن الارتجال السياسي، كما يكشف جهل ولاة الأمر بطبيعة هذه المنطق الصحراوية المحافظة، وكذا طبيعة التغيرات السوسيوثقافية التي تشهدها مؤخرا مناطق الجنوب. إن الاحتجاج من أجل المطالب الشرعية للمواطن لا يستدعي مقاطعة الحفلات الفنية فقط، بل مقاطعة النظام بأكمله الذي أخفق في إيجاد حلول للأزمات التي يغرق فيها المجتمع منذ الاستقلال. ثم أن ميزانية الثقافة مقارنة بميزانيات القطاعات الأخرى التي تٌنهب فيها أموال الشعب نهبا، لا تتعدى العٌشر.

الدولة توظف أسوأ ما في كنانتها الثقافية من عفن لتضلل الجماهير الشعبية، وهذه الأخيرة تتصدى لهذه الرداءة بالاحتماء خلف الدين، فلا الفن فن ولا الدين دين في هذه اللعبة بين النظام والشعب. حين يغيب العقل الواعي عن الجماهير الشعبية فقد تؤول الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.