شعار قسم مدونات

والخيبة أشدّ من الفقد!

blogs ألم

كمنشور ساخر صادفته على مواقع التواصل الاجتماعي، مَفادُه أنّ الجميع يتلّكم وينشر عن خيبات الأمل والفَقد والخُذلان ويبدع في التعبير عنْها وعن آلامِها وما تخلِّفه في أنفُسِهم، فأين أولئك الذّين يعيشون حياتهم بسلام وسعادة، فقلت في نفسي وهذا إثبات آخر على أن كل فرد في هذه الحياة إلا وقد جرّب الفقد باختلافاته وعاش الخيبات بكل أنواعها ودرجاتها.

إنّ الفقد وخيبة الأمل من أهّم الدروس التي تُعلّمنا الكثير في هذه الحياة، ومن أصعب الممّرات التي نتجاوزها، والتي ما إن عبرناها إلاّ وقد اكتسبنا أشياء وفقدنا اشياء أخرى فنصيرَ مختلفين على ما كنّا عليه قبلاً، وكأنّها قفزة صعبة يجب علينا القيّام بها في حياتنا وهذاما يجعل ذكراها تطول في ذاكرتنا وتصْحبُنا لفترة معيّنة من حياتنا حتى نقرّر أو نعرِف كيف علينا أن نتعامل معها، فتكون إما عنوان لكلّ شيء في كلّ مراحل حياتنا أو ننسحب من أشياء كثيرة في الحياة ونقف في منتصف الطريق. الخيبة والفقد وجهان لعملة واحدة ولكنّهما مختلفان في طبيعة المشاعر التي تستعمرنا بعد كلٍّ منْهما، وكنقطة اختلاف أخرى بينهما هو أنه في الفقد لا نكون طرفا مباشرا فيه، وأنه أمر لا مفر منه، على عكس خيبة الأمل نكون طرفا مباشرا هذا إن لم نكن سببا فيها، ولنا يد في ذلك، كما أن أثرها يطول في النفس والانفعالات الناتجة عنها مختلفة.

في الفقد نُظهِر حُزننا ونبكي حُزننا دموعاً، نصبر ونحتسب ونلتجأ إلى الله تعالي، في الفقد يجتاحنا شعور بالرضى ونتألم في نفس الوقت، في الفقد نتعايش مع حزننا ونؤمن أن الابتلاء حق وأنّه لا عودة لمن رحل عنّا، فلا نملك إلاّ تعهٌّدَنا له بالدّعاء فلا شوق ولا حنين يُرجعهم إلينا، ولا درب يوصلنا إليهم، ولا عابر يٌطمْئِننا عليهم، فقط نتمنّى أن نجتمع بهم عنده سبحانه، في الفقد قبول واستسلام بأن أمر الله كلُّه خير، فالفقد هو الشعور الحقيقي لأصل الحياة، أمر لا بد منه، لأجل هذا فإننا بعد الفقد نسترجع ذواتنا وربما نكون أقوى مما كنّا عليه، وقد يكون نقطة انطلاق لنا للأفضل، في الفقد نسمح للآخرين بمشاركتنا حزننا ولا يهمّنا إنْ رأونا ضعفاء، في الفقد نحزن من داخلنا وظاهرنا فهو طهارة للروح، قد تتوه فيه قليلا ولكنّها سرعان ما ترجع إلى الطريق، فالفقد يقتل فينا أشياء ولكنّه يزرع أمور كثيرة أخرى، ونفهم أن الدّوام والمواصلة ضرورة مهما كان الحال.

في الخيبات نبكي بصمت، نبكي في دواخلنا ونخفي حزننا ولا نسمح للآخرين برؤية انكسارنا، في الخيبات ليس هناك دموع حزن ولكن توجد ندوب وتشوهات خذلان في ذواتنا

قد يكون الفقد أشد الإيلام إيلاما ولكنَّ خيبات الأمل أصعب شعور يمكن أن يُعايشه الفرد، موجعة أكثر، تتعدّى أرواحنا إلى الأمد الذي يجعلها تَحِلّ في أبسط تفاصيل حياتنا، تبعث فينا ألماً غريباً وتجتاحنا مشاعر كثيرة مختلطة، فتتركنا مذَبذَبين، ولا يعني هنا أنّنا في الخيبات لا نتسلّح بالصبر ولا نتوكّل على الله سبحانه، ونرضى بأقداره وأن كلّ شيء بيَدِه سُبحانه، وأنّه فصل من حياتنا كُتِب علينا أن نَعيشَه، ولكنّها الخيبات تحفِر فينا عميقاً ويَصعُب رَدمَها سريعاً، شعور بالعجز وعدم القدرة على التّقدم، وخلل في السيطرة على مشاعرنا وموجات قلق تعبث في دواخلنا، فنَكْفر بالأمل ونيْأَس ونحزن بعمقٍ شديد، حزن مع غضب وضُعف وإحباط ،مجموعة من المشاعر كفيلة بهدم ذواتنا، نُمارس الهُروب من كلِّ شيٍء لأنّنا لا نملك سوى التّحمل والتّوجع أكثر، فلا نحن صبرنا ولا نحن استسلمنا فنتمنى لو أنّنا بدون مشاعر لثقل ما تحمله أرواحنا ،وللضجيج الذي يطوي في ثناياه أسى كبير، فتنطفئ مصابيحنا ونذبل إلى حين. 

في الخيبات نبكي بصمت، نبكي في دواخلنا ونخفي حزننا ولا نسمح للآخرين برؤية انكسارنا، في الخيبات ليس هناك دموع حزن ولكن توجد ندوب وتشوهات خذلان في ذواتنا، في الخيبات نعيش صراعات عديدة لعلّ أهمّها صراعَنا مع ذاكرتنا، نريد أن ننسى فلا ننسى، هي الخيبات كما يقال عنها موت كثير قبل الموت الأخير، نفقد قدرتنا على معايشة أيّ أحداث أخرى وكأنّنا اكتفينا من كل شيء في هذه الحياة، تتغيّر معاني كثيرة فينا، فتصبح السعادة والمثالية مجرّد أوهام أو أنّنا لا نستحق الفرح، فنجعل للخيبة وطناً بداخلنا وتُهتَلك قلوبنا لما تكدّس فيها من طعنات قد تتجلّى حتى ملامحنا.

إذا كان الفقد يَلفِت انتِباهَنا لبعض الأشياء التي كنّا نَغفَل عنها أحيانا، وتفاصيل صغيرة أهملناها، ونقدّر ونستحضر أموراً كنّا نجهلُها أو لا نُعيرُها اهتماماً، فإن خيبة الأمل ترسّخ فينا مبادئ الحياة العميقة ودورها وعظمتها وضرورتها، تعلّمنا قوة الاحتمال واتقان الصبر واحتراف الانتظار، نفهم معنى الرجوع إلى الله ونستشعره، نمارس الرضى بالمعنى الحقيقي ونتقبّل أمورا كنّا لا نستسيغها ونعزف عن التّذمر، كما أنّنا نُعيد ضبط وصياغة العديد من الأمور، مشاعرنا وتعابيرنا ومعاني الحياة المختلفة. إن الخيبات قد تكون حوادث لم نشأ أن نعيشها، ولكن الأكيد أنّها مرّت كما شاء الخالق والتفكير الزائد فيها مَفسدة لحياتنا، يكفي أن نطردها بكل ما أوتيَّت قلوبنا من قوة ولا نعيش متحسّرين على أيّام مَضَت ولن تعود، وأنّها لا تتعدّى كونَها دروس تعلّمْنا منها ما يجب أن نتعلّمه، ولا خيبات نحملُها على عاتق حاضرنا نتوشّحها رداءً أسود عند كلّ ألم.

لا تعطي الأشياء أكبر من حجمها وتوقّف عن كونَك مخذولاً، فالشجعان فقط من يخوضون معارك الحياة، ومساكين من لا يملكون حكايات موجعة، فبِقدرِ ما حَمِلتْه من ألم بقدر ما يَتأتّى منها نضجٌ كبير، فالحياة لا تنتهي مع خيبة أمل يمكن أن نعيشَها، يكفي أن ندعس عليها بأقصى نضج نملكه ونضحك على خيباتنا، بل ونخيّب ظن من خذلونا فينا فلا شيء أقوى من قلوب تجرّعت مرارة الخيبات لأنّها تعلّقت بربّها فطوبى لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.