شعار قسم مدونات

يموت العربي وهو يحلم بالحياة!

blogs - رجل

لايزال الرحيل هاجس كل عربي يتوق إلى حياة أفضل هو هاجسنا الأول المتفق عليه، منذ القدم وقوافل الراحلين لاتنتهي أبدا  بدءا بالبحث عن المراعي الخصبة عن مساقط الغيث حيث ينبت العشب وتصبح الحياة أقل صعوبة، الترحال الذي لطالما ارتبط بقصائد الشعراء في العصر الجاهلي  في مفتتح كل قصيدة من ذكر الديار والوقوف على الأطلال والحنين إليها كدلالة على الإرتباط القوي بكل أثر لها هو هاجسنا المثير للقلق .

القلق الذي نبحث في تفاصيله عن الإطمئنان  والسكينة !

 

في عصرنا الحالي لم يعد الأمر كذلك اختلفت المعطيات كثيرا ومعها تعقدت أمور الحياة أكثر أصبحت متطلبات الحياة أكثر صعوبة مع ذلك لايزال أحدهم في مكان ما يحلم بقطعة خبز دافئة، يذهب العالم بعيدا في تقدمه وازدهاره بينما تتوقف عجلة الزمن في أجزاء واسعة من هذا العالم عند ظلام دامس، أوطاننا العربية تعيش أسوأ فتراتها الحديثة تعيش كابوسا مرعبا يجثم على صدرها بكل قسوة الربيع الذي كنا نعول عليه كثيرا أصبح خريفا تكنس أوراقه الريح العاصف تنثرها في كل اتجاه، الصراعات التي لايراد لها أن تنتهي، الشقاء يبدو سيد كل موقف، أوطاننا التي نشأنا فيها طفولتنا ترعرعنا في أكنافها تلفظنا إلى المدن البعيدة في أحسن الأحوال.

 

وحدها الأحلام من تمنحك حياة كاملة غير أنها حياة مؤجلة تعيشها ترسم ملامحها في خيالاتك الواسعة تحاول جاهدا بكل آمالك المتبقية أن تحيا تفاصيلها الجميلة أن تظل واقفا على قدميك وإن أدركك الموت قبل أن تدركها أنت

الهروب إن صح التعبير هو هاجسنا المتقد في ظلمات أوطاننا البائسة به نرسم بقعة ضوء صغيرة، نهرب من خيباتنا الكثيرة  تقتلنا اللامبالاة، أصبحنا نهرب أخيرا خوفا من الموت برصاصة طائشة إلى الموت اشتياقا ولوعة، وحين تصبح كل الخيارات مريرة يصبح الرحيل أقلها مرارة وحسرة كما نعتقد، ويقال أيضا "الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة"  تنسب هذه المقولة للإمام علي أبن أبي طالب، تبدو هذه العبارة صادقة وصادمة  في آن واحد إلى حد كبير .من يخوض هذه التجربة بكل تفاصيلها الصغيرة  يدرك جيدا أنه وفي كلتا الحالتين يعيش الخسارة بأشكال مختلفة.

   

في عالمنا العربي تعودنا كثيرا أن تكون الهجرة هي بوابتنا الرئيسية للولوج إلى عوالم الأمنيات الدافئة حين تغلق الأوطان أبوابها وقد كتبت بالخط العريض على كل باب "ممنوع الدخول لغير اللصوص " ففي سبيل لقمة عيش كريمة لايتردد أحدنا أن يضحي بأثمن مايملك كي يستطيع فقط الحصول على تأشيرة دخول إلى بلاد أخرى،  كي يمضي إلى المجهول بكامل قواه العقلية وبنصف قلب فقط !

 

تستطيع الغربة أن تمنحك نصف حياة ولذا تزداد علاقتنا بالصبر يوما بعد يوم متانة وقوة فصوت أمك يتسلل عبر سماعة الهاتف تلهج لك بالدعاء يخبرك أنك لاتزال على قيد الحياة ابتسامة طفلتك الصغيرة  تبدو سعيدة جدا وهي ترتدي فستانها الوردي تخبرك أنك لاتزال على قيد الحياة، كل علامات السعادة التي تحاول ان ترسمها في وجوه من تحب تخبرك أنك لاتزال حيا، تشعر أنك لاتزال بخير مادمت قادرا على العطاء والتضحية، تمنحك الغربة نصف حياة باهتة الملامح، ليس بإمكانها أن تعطيك أكثر من ذلك هي في الحقيقة تأخذ منك بقدر ماتعطيك بل تأخذ أكثر.  في إحدى قصصه القصيرة "ليته لم يعد" كان الكاتب اليمني محمد الولي أدق وصفا وهو يرسم مشهدا فلسفيا مؤلما يمكنه أن يلخص كل شيء لأحد العائدين من البلاد البعيدة محمولا على النعش

  

"حملق الأطفال في الجسد الممدود.. لم يتخيل الصغير أنه أباه.. لقد رسم له في أعماقه صورة أخرى عملاقة، قوية، عاطفية.. كان كالأغنية التي كانت أمه ترددها وهي تطحن مساء حبوب الشعير.. أما الكبير فلم يكن يعرف ماذا يفعل.. ظل مبهورا لساعات.. أباه الذي قبله لم يكن هو هذا الممدود هنا، لعل الرجال في الوادي، قد اخطأوا ونقلوا إليهم شخصاً آخر.. ولكن أمه صامتة لا تتحدث إنها تنظر إليه لعلها لم تتبين الخطأ، أماه.. إنه.. ليس. وقاطعه صوت أنين: أريد ماء.. ماء.. ماء.. جرت الأم إلى زير الماء.. اقترب الأطفال من الجسد.. حتى العيون أغمضت.. لم تترك الأم مكانا لولي إلا وزارته، ولا سيدا إلا نذرت له، ولا مسجداً إلا وأعطته من يقرأ فيه القرآن، حبوبا وسمنا ولبنا، لكنه ظل على السرير، لا يتحرك عيناه تزوجت بالسقف ورأسه لا يتحرك ولكنه لم يمت"

 

وحدها الأحلام من تمنحك حياة كاملة  غير أنها حياة مؤجلة تعيشها  ترسم ملامحها في خيالاتك الواسعة تحاول جاهدا بكل آمالك المتبقية أن تحيا تفاصيلها الجميلة أن تظل واقفا على قدميك وإن أدركك الموت قبل أن تدركها أنت، في حقيقة الأمر أيها الأصدقاء يموت العربي وهو يحلم بالحياة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.