شعار قسم مدونات

نوستالجيا.. في الحنين لأيام الصبا..

blogs تأمل

"نوستالجيا" هي لفظة يونانية تعني الحنين إلى الماضي، وهو شيء محبب للجميع. لا تنكر! البكاء على الأطلال هواية تفنن فيها الشعراء دومًا، كلهم يبكون الماضي وهي مأساة تتكرر دائمًا، فالناس لا تعرف قيمة الأشياء الا بعد فقدانها، وكأن البيوت يجب أن تصبح أطلالًا لتصير رائعة! ولكن لا داعٍ للغرور، فهواية البكاء على الأطلال لم تقتصر على عنترة وقيس والمتنبي وغيرهم. فلو أنصفنا فكل واحدٍ فينا يبكي أطلاله الخاصة بعض الشيء أليس كذلك؟

ولم لا؟! الماضي مكانٌ جميل حيث الأشياء لا تزال دافئة ولم تلوثها بعد رياح الأيام الباردة. هناك كان لتفتح الزهور معنى وعبق، ولتساقط الامطار إبهارُ المعجزات التي نتأملها من خلال النوافذ كل مرة بإعجاب وربما وقفنا في الشوارع بفمٍ مفتوح نحاول اقتناص قطرات المطر البارد متعجبين من الكبار حولنا.. الماء يتساقط من السماء لم لا يشرب منه هؤلاء؟!

الماضي حيث كانت الأولويات بسيطة والمعاني مازالت واضحة بالألوان والروائح ليالي العيد ورائحة الكحك، السحور وصمت الليل وأصوات الابتهال من المذياع.. يوم الجمعة ورائحة البخور.. حتى مباراة كرة مع صبية الجيران لها رائحة التراب والضحك والخدوش على الركبتين. الماضي مكان جميل بلا شك حتى لشخص ماضيه مضجر مثلي. أتساءل كيف سيكون حالي حينها لو كنت أعرف ما أعرفه الآن، هل كنت سأكرر نفس الأخطاء؟ هل كان حاضري سيتشكل كما هو الآن؟ لذا لنفترض جدلًا ان "أينشتاين" كان محقًا وأن الوقت يمر فعلًا بسرعات متباينة، لنفترض أن بالإمكان عكس عقارب الساعة والعودة إلى لحظات تساقط المطر ومباراة الكرة مع الجيران وعبق الزهور، خاطر جميل فعلًا ولكن ماذا كان سيحدث؟

نحن نتغير، نتأقلم، تطرقنا التجارب كالمطرقة على السندان لتصنع أشكالًا أخرى أفضل منا وأقل سذاجة تجنبًا للهزائم وخيبات الأمل، لذا في النهاية أجد نفسي أنظر إلى الماضي وأقول هل فقدت الأشياء فعلًا رائحتها

هاك يا صاحبي ما سيحدث، سيجلس معك الكبار ليخبروك بفمٍ باسم ووجه مشرق أن الأمور لا تزال بخير وأن مستقبلًا باهرًا ينتظرك، الخير ينتصر على الشر كل مرة لا تقلق، هو يحتاج فقط أن يكبر أبطالٌ مثلك ليساعدوه، لا تقلق يا صغيري اتبع نصائحنا فقط كما يتبع الأعمى خطوات عصاه وستكون الأمور بخير، وأنت تصدق، وكيف لا تصدق؟ أنهم الكبار وهم يعرفون كل شيء. لو قال لك أحدهم هذا الآن لنعته بالعته ولقلت له انه وغد مجنون يستحق الضرب بالسياط، ولكن كطفل ربما أملت رأسك في غباء وربما فكرت في الأمر بضع دقائق ثم لنسيت الأمر برمته. ليس في الأمر تناقض كما تظن، كل ما حدث أنك انت تدرك الآن الحقيقة التي حاولوا تجاهلها تخفيفًا عنك.

لذا ربما الأشياء لم تتغير، بل انت من فعل. في الماضي انت كنت ضفدعًا في بئر تتأمل السماء من الداخل، تتأمل في فضول عالمك الصغير ببساطة لأنك لم تعرف سواه. فانت الآن لم تعد طفلًا كما كنت، بل شابٌ عاثر القدمين، مُغبِر الكفّين، مازال يَعبر فيعثر، ويكبو فيقوم. فالمصائب لم تعد حدثًا مبهما يحدث للآخرين فقط والموت لم يعد غريبًا كما كان. أنت الآن شابٌ عاركته الحياة وعاركها، فتارةً تفوز وتارةً يفوز. أنت الآن من الكبار!

نحن نتغير، نتأقلم، تطرقنا التجارب كالمطرقة على السندان لتصنع أشكالًا أخرى أفضل منا وأقل سذاجة تجنبًا للهزائم وخيبات الأمل، لذا في النهاية أجد نفسي أنظر إلى الماضي وأقول هل فقدت الأشياء فعلًا رائحتها وطعمها أم أنا من فقد حواسه؟ هل سقوط الأمطار لم يعد معجزة أم أنا من اعتدته؟! والأهم هل كانت تلك الدروس التي علمتنا إياها الهزائم حقًا بتلك الأهمية؟

حتى لو اخترت كل الخيارات الصحيحة على طول الطريق مازال لدي ندم. لو عادت بي الأيام لجلست مع أحبابي على شاطئ البحر نشرب القهوة في هدوء ولأخبرتهم حتى يملوا أني لا أحب البحر ولا القهوة ولكني أحبهم هم وأحب رفقتهم. لذا أتساءل.. هل سيظل الماضي سعيدًا كما اذكره وقتها لو عرفت ما أعرف اليوم؟! ليس ندمًا بل تساؤل وأنا أقف بعد أن عبرت ذاك الطريق أين كنت سأكون لو اخترت أشياءً أخرى؟ لذا في النهاية هو تساؤل.. هل بهتت الأشياء؟ أم أنا من بهت؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.