شعار قسم مدونات

ما قبل الموت بقليل.. تسعون يوما في القبر!

blogs سجن

ترددت كثيرا قبل الشروع بالكتابة، ولا أدري ما الذي دفعني الأن للكتابة ولكن هي الذكرى تلوح ما تلوح ببالي! لا زلت أذكر ذلك التاريخ جيدا وكأنه اليوم، سبع سنواتِ مرت على ذلك اليوم المشؤوم ولا زلت أذكر تفاصيل التسعين يوما وكأنها اليوم. لن أقف كثيرا على التفاصيل فهي كثيرة جدا ولا أستطيع حصرها هنا أبدا، ففي كل تفصيلٍ ألفُ أثرٍ وأثر، وسأوجز الرحلةَ ما استطعت.

كانت الشمس على وشك الغروب، كنتُ أرقد على سريري أستريح من تعب داومي الجامعي، وإذا بجرس البيت يقرع، وثب أخي الصغير مسرعا ليفتح الباب، مضى القليل من الوقت وسمعت بعض الكلام المغمغم، فناديت على أخي وسألته من بالباب فلم يجب، فخرجت من الغرفة لأرى ما الأمر، وإذا بأشخاصٍ مسلحون بلباسٍ مدني في وسط البيت، فُزعتُ وفوجئت! لا أكاد أنسى تلك اللحظة أبدا، ألاف الأفكار اشتعلت برأسي، ألاف الأسئلة تدور في ذهني، من هم؟! ماذا يريدون؟! كيف يجرؤون على الدخول بهذه الطريقة وفي وضح النهار!؟

من هَول المنظر عُقد لساني وضاق فكري، فكيف لشابٍ في مقتبل العمر قد بلغ الثامنة عشرَ من أيامٍ قليلة -ولأكن أكثر صدقا- مدللٌ لدى والديه، كلُ ما يطلبه مُلبى ومجاب، لم يرى ذرةً من شقاء الدنيا، لم يخض الكثير في حياته أن يستوعب ما يحصل أمامه!؟ والمفاجأة الأكبر أنهم يسألون عن "أحمد"! وببراءةٍ كانت لا تزالُ تظهر على ملامحي وتختلط بها أفعالي أجبت "بنعم أنا هنا" ولم أكد أُنهي الجملة حتى باشروا بالقدوم إلي، كل ما كان يدور في ذهني وقتها أيُ مصيبةٍ قد اقترفتها يا تُرى!؟

لم يبقى أمامي خيارٌ سوى المضيُ معهم، فركبت السيارة وسرعان ما ظهرت حقيقتهم فبدأوا بالصراخ والتهديد والوعيد! عندها أدركت قليلا من عظم المأساة وخرجت عن طفولتي قليلا

عدت لبراءتي الغبية وسألت "من أنتم؟" فشدني أحدهم بيدي وقال لي "أخوتك من الجهاز الفُالاني، أنت مثل ابنا وبدنا نطمن عليك وعلى مستقبلك السياسي" وسرعان ما بدأوا بتفتيش المنزل، وجلس أحدهم معي يسألني عن يومي وكيف امضي وقتي بالجامعة، ولا زالت نفس الأسئلة في ذهني، ولكن لم اسأل أيا منها فما يحصل كفيل بإسكاتي وشل لساني!

لا أدري كم مضى من الوقت حتى تجمعوا حولي وقالو "يلا تعال معنا على المقر، بتشرب كاسة قهوة وبتروح"، وما زاد علي المأساة بأن لا أحد بالبيت سوى أخواني الصغار، قلت في نفسي لأخفف عني ثقل المشهد بالتأكيد سيعترضهم الجيران ولن يسمحوا لهم بأخذي، ومن ثم ماذا يريدون من فتى مثلي في مقتبل عمره مدلل لا يدري شيئا عن الحياة، بالتأكيد هناك خللٌ ما! وكانت هذه أول خيبة فلم يعترضهم أحد بل اكتفوا بالمشاهدة وبعض التمتمات، واكتفيت أنا بألمي وحسرتي!

ولم يبقى أمامي خيارٌ سوى المضيُ معهم، فركبت السيارة وسرعان ما ظهرت حقيقتهم فبدأوا بالصراخ والتهديد والوعيد! عندها أدركت قليلا من عظم المأساة وخرجت عن طفولتي قليلا، فلا يعُقل أن كل ما يحصل لمجرد خطأ بالاسم أو بالعنوان، ولا بد أن هناك أمرا عظيما بانتظاري! دخلت للمقر وإذا بالصراخ ينطلق من كل حدب، أصوات ضربٍ وبكاء من كل زاوية، روائح مقرفة ونتنة تفوحُ من كل مكان، جدرانٌ قد حُفِرَ عليها الكثير من العبارات والتواريخ، وانا بطفولتي لا أدري ما الذي أدخلني وسط كل هذه الفوضى! مضت الساعات بثقلها وبآلامها وأنا لا زلت ادور بذهني في دوامة الصدمة وهول ما أسمعُ وأُشاهد.

بصدق لا أذكر أيَ سؤالٍ مما سُئلتُ في أول يومٍ لي، ولا أدري ماذا كانت إجاباتي، ولكن ما أجزمه أنها لم تتعدى الأسئلة الشخصية أبدا، كنت في كل فترة أخفف عن نفسي بأن بيتي لا يبعد عن هنا مسافة العشر دقائق ولا يمكن أن يتركني أصدقائي وعائلتي ابدا بيد ثلةٍ كهذه، وما هي إلا ساعات وحتما سأخرج! يستحيل على أبي وأمي أن يتركا طفلهما المدلل وحيدا في خضم هذه الفوضى، ومن ثم يستحيل على الجهاز نفسه أن يمنعوني عن عائلتي فهم مثلي يتحدثون لغتي وبعضهم بعمر والدي وبعضهم من نفس مدينتي!

أكاد أجزم أنه لم تمضي ساعة إلا ولاح أمرُ الخروج ببالي! في خضم صراخ أحدهم علي واستفزازي استرقت النظر إلى الساعة وإذا بها الواحدة! تبا أيُعقلُ أنَّ الكُلَ سيخذلني وسأبقى هنا!؟ كانت هذه أصعب وأشد لحظات مرت علي في حياتي، كيف لهم أن يتركوني هنا وينامون دوني؟! حينها كنت شديد السذاجة لم أكن أدرك معنى النفوذ والسلطة والقوة، لم أكن أدرك معنى العربدةِ أبدا، كنت طفلا غارق بالبراءة والخجل، كنت انظر للحياة بمثاليةٍ مطلقة، فهذا ما ربياني عليه والداي، وهذا كله ما ساهم في مفاقمة الخيبة!

قليل من الوقت وإذا بالمحقق يقولُ لي "اذهب وارتح قليلا" ونادى على أحدهم لأخذي، وبالرغم من كل الخيبات عدت لأتمسك بالأمل والبراءةِ من جديد فسألت مباشرة "إلى البيت!؟" فرد العسكري بسخريةٍ مطلقة "إلى القبر يا حبيب إمك" واقتادني لتحت الأرض حيث "المقابر" بكل ما تعنيه الكلمة! قبرٌ طوله مترين وعرضه اقل من متر، خالٍ تماما من معالم الحياة مُضاء بضوء أصفر شديد، ذو بابٍ حديديٍ ضخم رسم على بابه رقم سبعة! وإذا به يطلب مني الدخول والنوم، فسارعت بالسؤال بتعجب "وين!؟" فرد قائلا بعدم مبالاة "على البلاط" دفعني وأغلق الباب على قبري! ولك يا عزيزي أن تتخيل ثِقلَ الساعات على شابٍ مثلي، ولك أن تتخيل مدى المرارة والألم!

ما يموت في تلك المقابر أكبر بكثير مما نتصور وكلنا مسؤولون وكلنا بطريقة أو أخرى نتحمل جزءً من الذنب، فأقل القليل أن نذكرهم في ثنايا دعائنا
ما يموت في تلك المقابر أكبر بكثير مما نتصور وكلنا مسؤولون وكلنا بطريقة أو أخرى نتحمل جزءً من الذنب، فأقل القليل أن نذكرهم في ثنايا دعائنا
 

في حينها لم أكن أعلم أن هناك أناس يتعاملون بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب، كان ذلك بعيدا تماما عن مخيلتي، كنت شديد التفاؤل والحلم، كنت عالي الهمة قوي العزيمة! ولكن الخيبة كانت شديدة المرارة وللأسف كانت النتيجة أشد مرارة! وكم أسلفتُ سابقا لن أخوض كثيرا في التفاصيل، ولكن هكذا مضت هناك تسعون يوما من حياتي في قبري ذاك!

تسعون يوما من العذاب والآهات والألم! تسعون ليلة لم تضمي منها ليلة إلا وكان يغلبني النوم وأنا أردد "يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نسيا منسيا"! تسعون ليلة عددتها وحفرتها على جدران قبري! تسعون كابوسا كنت أفزع منهم على أصوات البكاء والتعذيب! تسعون يوما عددت آلاف الدقائق فيها! تسعون يوما مضت وقتلت معها كل معاني البراءة في صدري! تسعون يوما مضت وأخذت معها كل النعومة والرقي في شخصيتي! تسعون يوما مضت وقضت معها على طفولتي وحسن ظني بالناس! تسعون يوما مضت وداست معها على كل معاني المثالية!

 

ما قد ضاع مني هناك على بلاط قبري لا يمكن أن يرجع، ما قد فقدته هناك في ثنايا البرد لا يمكن للكلمات وصفه، ما قد مات من طفولتي وبراءتي في خضم القذارة والشتائم والصراخ هناك لا يمكن أبدا أن يعود! سبع سنوات مرت على تلك الذكرى، تخللت تلك السبع بعضٌ من التجارب المماثلة والقاسية وبالرغم من طولها مقارنةً بهذه، ولكن بصدق ما صنعَتُهُ هذه التجربة بي لم ولن تصنعه غيرها من التجارب. صدقوني ما يموت في تلك المقابر أكبر بكثير مما نتصور وكلنا مسؤولون وكلنا بطريقة أو أخرى نتحمل جزءً من الذنب، فأقل القليل أن نذكرهم في ثنايا دعائنا، عسى دعوة تُستجاب فيحلَ الفرج على أحدهم فيعود للحياة من سخط تلك القبور!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.