شعار قسم مدونات

سلفية آل سعود واستراتيجيات تمزيق الأمة!

blog أل سعود

كانت السلفية ومازالت منهجاً علمياً نقياً، ولكن يد النظام السعودي عمدت إلى استخدامها كمطية لتحقيق قوتها الناعمة في العالم الإسلامي، فتم تصديرها بعد تحويلها من "مدرسة علمية"، إلى "أيديولوجيا سياسية"، للسيطرة على الحركات الإصلاحية، وفي القلب منها الإخوان المسلمين.


نظرية "المركز والأطراف" وتصدير سلفية آل سعود:

وباستقراء الحالة يمكننا أن نقرر أنه تم اعتماد نظرية "المركز والأطراف"، والقائمة على وجود مركز قوي، يهيمن على باقي الأطراف الضعيفة، يكون للمركز القدرة على القيادة السياسية والاقتصادية والثقافية للأطراف، والتي بدورها لا تتمتع بالاستقلال، وتحوي مهارات ناقصة وغير مؤهلة.

عملت السعودية "المركز" على اعتماد المذهب الحنبلي كمذهب رسمي، ودرَّسَت المذاهب الأربعة، وأنشأت الجامعات والهيئات الشرعية، وكونت شبكة قوية من العلماء الشرعيين كالشيخ ابن باز والعثيمين والفوزان وغيرهم، ودعمت الأعمال الخيرية، والبعثات الطلابية والتبادل الثقافي، ساعدها على ذلك القدرة الاقتصادية الضخمة لعصر البترول.

في الوقت ذاته دعمت في الأطراف نشر فكرة أيديولوجية ذات أطوار ثلاثة متعاركة حركياً، تدعو لنبذ المذاهب الأربعة، وتحرم تكوين الجماعات الإصلاحية، ورصدت لذلك تمويلات مالية ضخمة. مما أدى لإنتاج تيارات سلفية "انشطارية" متعاركة فيما بينها، متعاركة مع الجماعات الإصلاحية، متعاركة مع مجتمعاتها، نتج عنها حالة من التمزق الفكري وتأثر اللُحمة الوطنية للمجتمعات المستهدفة.

أولاً: الأيديولوجيا ثلاثية الأطوار واستراتيجية توازن القوى:
في الوقت الذي اعتمدت السعودية المذاهب الأربعة، دعمت في دول الأطراف طريقة تدعو لاتباع الدليل بغير تقيد بها!، أطلقوا عليها "فقه الدليل"

مرت السلفية السعودية بثلاثة مراحل فكرية هي على الترتيب مرحلة الدولة السعودية الأولي والثانية، ثم مرحلة المملكة العربية السعودية، ثم مرحلة ما بعد حرب الخليج 1991، والتي أنتجت ثلاثة أطوار متنافرة داخل الفكرة السلفية هي على التوالي السلفية الجهادية والعلمية والمدخلية. فأينما حلت السلفية السعودية أنتجت تيارات تابعة للأطوار الثلاثة، يحدث ما بينها عملية "توازن قوى"، بمعنى أن تقنية نشر الأيديولوجيا تستهدف وجود الأنواع الثلاثة بنسب متفاوتة، ليحدث داخل الجماعة السلفية حالة انشطار وتنافر دائمين، بما يحقق استمرار التبعية الفكرية للمركز، بطريقة "فرق تَسُد".

فبالرغم من اختلاف التيارات الثلاث، نجد تبعيتهم المنهجية والفكرية جميعاً للسعودية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد رأس المداخلة "ربيع المدخلي" السعودي الجنسية درس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ودَرَّس فيها، ومُنَظِّر التيار الجهادي أبو محمد المقدسي درس على علماء السعودية، وأحمد الحازمي صاحب التيار الفكري الأكثر تطرفاً في داعش، سعودي الجنسية!، وغيره الكثير، حيث اعتمدت الحركات السلفية جميعها على منهجية وأقوال واختيارات مشايخ السعودية أمثال ابن باز وابن عثيمين وغيرهم.

ثانياً: نبذ المذاهب الأربعة واستراتيجية إضعاف المحتوى:

حيث يعرف المذهب الفقهي بأنه ذلك الاتجاه الذي سار عليه كل إمام من أئمة الاجتهاد في استنباطهم للأحكام، والتي اكتسبت قوتها العلمية والعملية من إجماع الأمة على صحتها منذ القرن الثالث الهجري. ففي الوقت الذي اعتمدت السعودية المذاهب الأربعة، دعمت في دول الأطراف طريقة تدعو لاتباع الدليل بغير تقيد بها!، أطلقوا عليها "فقه الدليل". فجعلت لكل "شيخ سلفي" الحق في الاستنباط من الدليل الشرعي كما يحلو له، بغير تقيد بمسلك علمي معين مما أقره علماء الأصول!

قاد هذه الطريقة الشيخ الألباني -رحمه الله- والذي جمع أقواله في كتابه (الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام)، وسمى فيه اتباع المذاهب "المُقَلِّدة"، ورأى أن جمهور المسلمين يأخذون بمذاهب يراها بدعة عظيمة، بل وشبهها بالحكم بغير ما أنزل الله، يقول الألباني: "ولقد عم هذا الوباء وطم كل البلاد الإسلامية والمجلات العلمية والكتب الدينية إلا نادرا، فلا تجد من يفتي فيها على الكتاب والسنة إلا أفرادا قليلين غرباء، بل جماهيرهم يعتمدون فيها على مذهب من المذاهب الأربعة!"

نتيجة لهذا الفراغ العلمي، والجهل بمسالك الاستنباط الشرعي، نشأ جيل سلفي فارغ من المحتوي العلمي الأصيل، بل ويتصارع مع المدارس العلمية المذهبية الأصيلة مثل الأزهر والزيتونة، مما أدى إلى تبعيته المطلقة لأقوال المشايخ السعوديين، فتجد الفتوى في التيار السلفي في حقيقتها، قص ولصق من تراث هؤلاء.

ثالثاً: استراتيجية احتواء الكفاءات:

في الوقت نفسه تم سحب الكفاءات المتميزة التي ظهرت في التيار للمركز، مثل الشيخ عبد الرزاق عفيفي، عضو هيئة كبار العلماء، والمؤرخ محمود شاكر صاحب موسوعة التاريخ الإسلامي، ومحمد الأمين الشنقيطي وغيرهم. مما قوى القيادة الفكرية للمركز في مقابلة الأطراف الهشة التي لا تملك إلا الإتباع.

صرح محمد بن سلمان لصحيفة
صرح محمد بن سلمان لصحيفة "واشنطن بوست" بأن تصدير السلفية السعودية ودعمها المادي كان بطلب من الحلفاء منذ الحرب الباردة، وبناء عليه دعم النظام السعودي المؤسسات الدعوية، والمنظمات الإسلامية العالمية
 
رابعاً: حرمة العمل الجماعي واستراتيجية تشتيت الجهود:

إذا كانت السلفية قد انشطرت إلى ثلاثة فرق متناحرة، فقد أثيرت مسألة "حرمة العمل الجماعي" والتي وجدت صدىً قوياً داخل السلفية المدخلية والعلمية، أدى لتشتيتها، إذ يحرم تكوين الجماعات أو الانتظام داخل عمل مؤسسي منظم لخدمة قضيتهم المشتركة!

إذ يعدد "رسلان" في كتابه "كفي غشا للمسلمين" الآثار السيئة للجماعات الإسلامية، ويري أن هذه الجماعات، والتجمعات، وهذا العمل الجماعي بدعة منتنة مزقت الأمة، وأذهبت قوتها. كنتيجة لذلك ظهرت أعداد كبيرة من التجمعات السلفية الصغيرة عديمة الجدوى، وغير القادرة على إنتاج حالة إصلاحية حقيقية، فزادت الانشطارات داخل التيار وتشتت قواه، وزاد من تبعية الأطراف للمركز القوي.

خامساً: التمويل المادي واستراتيجية السيطرة:

صرح محمد بن سلمان لصحيفة "واشنطن بوست" بأن تصدير السلفية السعودية ودعمها المادي كان بطلب من الحلفاء منذ الحرب الباردة، وبناء عليه دعم النظام السعودي المؤسسات الدعوية، والمنظمات الإسلامية العالمية، وبناء المعاهد والجمعيات، التي تروج له. ففي مصر كمثال دعمت السعودية مشروعات أنصار السنة، وأغلب التيارات السلفية، وحزب النور، وموَّلت دوراً لطباعة الكتب بأسعار رمزية، كدار أسد السنة، والإمام المجدد لنشر الفكر المدخلي، وغير ذلك الكثير. مما دعم تحكم المركز، وجعل بعض عناصر ومشايخ التيار السلفي أشبه بموظفين تعطيهم السعودية رواتبهم الشهرية، وما يستتبع ذلك من فرض سياسات التبعية.

نموذج تطبيقي: الحالة المصرية في سبعينيات القرن العشرين:
انقسم التيار السلفي الجهادي إلى العديد من المجموعات الجهادية، كان أبرزها وأكبرها الجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد، الذين انقسما على إثر خلاف في مسألة فقهية شهيرة حول إمامة الضرير أم الأسير

لجأ السادات لاستدعاء السلفية السعودية كتيار مضاد للإخوان المسلمين، بعد خلافه معهم، فبالرغم من تواجد السلفية في مصر منذ العشرينيات، فقد لجأ السادات لإقامة علاقات مباشرة مع المخابرات السعودية، لفتح المجال لنقل "الإيديولوجيا" السلفية الجديدة. يؤكد مارك كورتيس -من واقع وثائق المخابرات البريطانية- في كتابه "التاريخ السري" إقامة السادات علاقات سرية مع رئيس المخابرات السعودية "كمال أدهم"، مما شكل وفاقاً مصرياً سعودياً جديداً.

وعن نفس التوقيت حكى عبد المنعم أبو الفتوح-رئيس الجماعة الإسلامية بالجامعات- أن السلفية السعودية أقحمت على المشروع الإسلامي في الجامعات المصرية إقحاماً، عن طريق الكتب المجانية التي تأتي من السعودية بالآلاف، ورحلات الحج والعمرة، التي يعود منها الطالب شيخاً سلفياً. وقد حقق السادات غرضه، فمع التلامس الأول للسلفية السعودية مع الحركة الإسلامية في الجامعات المصرية، بدأت الحالة الانشطارية، وبدأ الخلاف والتمزق في صفوفها، وانقسمت لتيار موالي لفكر الإخوان المسلمين، وتيارات سلفية مخالفة له، فلم يلبث التيار السلفي سريعاً أن انقسم إلى تيارين متعاركين أحدهما علمي، والآخر جهادي.

ولم يلبث التيار العلمي أن انقسم إلى عدة تيارات مختلفة فيما بينها، منها النواة الأولى لجماعة الدعوة السلفية بالإسكندرية، وكيان الحركة السلفية بالقاهرة، وكذلك عدد ضخم من المشايخ والدعاة المستقلين، الذين يرون "حرمة" تكوين الجماعات، حتى يمكننا أن نرى "تجمع سلفي" ربما في كل حي أو قرية مختلف مع من يجاوره من السلفيين. كذلك دخل هذا التيار في حالة صراع فكري مع نفسه، خاصة بعد تبلور التيار المدخلي، وصراع آخر مع الأزهر الشريف "الأشعري"، وصراع مع المجتمع الذي وصفه فتحي أمين عثمان (وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية) بقوله: " كان تسعة وتسعون في المائة من الأمَّة على هذه الجاهلية في عملها وعقيدتها وخُلُقها"، فضلا عن صراعه الأصلي مع الإخوان المسلمين.

وكذلك انقسم التيار السلفي الجهادي إلى العديد من المجموعات الجهادية، كان أبرزها وأكبرها الجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد، الذين انقسما على إثر خلاف في مسألة فقهية شهيرة حول إمامة الضرير أم الأسير. هذه الحالة الانشطارية نجم عنها إضعاف الحركة الإسلامية بوجه عام، وإيجاد أرضية واسعة للخلاف الفقهي والعقدي الغير المبررة، ومعارك وهمية بين أتباع العقيدة السلفية والأشاعرة، واتخاذ الخلاف "العملي" في العقلية السلفية بُعداً عقائدياً، واتهامات بالكفر والبدعة لشركاء الماضي القريب. وكانت النتيجة تفكك وحدة النشاط الطلابي بالجامعات المصرية، وتفرق الوحدة الفكرية داخل الحركة الإسلامية المصرية، دعم ظهور التيارات التكفيرية، إعلان الحرب غير المبررة على الأزهر وعقيدته الأشعرية، ثم مقتل الرئيس المصري السادات على يد خلية منتمية للمجموعات الجهادية السلفية، ثم دخول البلاد في دوامات من العنف والعنف المضاد حتى فترة التسعينيات، مع بقاء السيادة العلمانية على أجهزة الدولة. فيا مشايخ وأتباع التيار السلفي السعودي "أَفَلَا تَعْقِلُونَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.