شعار قسم مدونات

ﻭﺃﻋﻄﻲ ﻧﺼﻒ ﻋﻤﺮﻱ ﻟﻠﺬﻱ ﻳﺠﻌﻞ ﻃﻔﻼً ﺑﺎﻛﻴﺎً ﻳﻀﺤﻚ!

مدونات - طفل يبكي سوريا إدلب

لطالما سألتُ نفسيَ ما ذنبُ الطفولة..
ما ذنبُ طفل الحرب الذي تهدمَ منزلَهُ فوقَ جَسدِهِ الطريِّ أو قَضَتْ عليهِ رصاصةٌ طائشةٌ وهو حتّى لا يعرفُ ماذا تعني كلمةُ رصاصة؟ 
ما ذنبُ الطّفل الفقير الذي ينهشُ البردُ اقْدامَهُ الحافيةَ ويعصرُ الجوعُ معدتَهُ الخاويةَ؟
ما ذنبُ الطّفلِ اليتيمِ الذي يفتقدُ اليدانِ اللتانِ تمسكانِ يديهِ من كلا الطرفين وتأخذان بهِ نحوَ الأمامِ؟ 
ما ذنبُ الطفل في خلافاتِ والديهِ أن يعيشَ الوحدةَ والإهمالَ؟ 
ما ذنبُ الطّفل في كلِّ ما يجري؟ 
   
الأطفالُ هم بسمةُ الحياةِ وروعتَها ورمزُ البراءةِ همُ الروحُ الطاهرةُ التي لا يَشُوبُهَا مُكرٌ وخبثٌ يعيشونَ في عالمٍ من الأحلامِ وهمهم الأكبر كيفَ يحصلونَ على قطعِ الحلوى والألعابِ. طِفلٌ لاجئٌ يكرههُ النّاس وطِفلٌ فقيرٌ يَدعوهُ الجميعُ بالشحاذ وطفلٌ يتيمٌ لا يراعونَ فقدانَهُ والديهِ وطفلٌ لقيط ينهالونَ عليهِ بجملةِ (ابن حرام)، الأطفال هم كالصفحةِ النَّاصعةِ البياضِ فلماذا تريدونَ تشويهَ هذهِ الصفحة؟ ولماذا تحمّلونَ الطّفلَ ذنبَ ما يدورُ حولَهُ؟
   

إنّي لأرى كلباً يحنُّ على طفلِ قطٍ وأرى الإنسانَ يعنِّفُ طفلاً بدونِ أيَّةِ شفقةٍ أو رحمةٍ وكأنَّ الضميرَ لديهِ تبخّرَ وصارَ سراباً، ما أقسى القلوبَ البشريةَ

من أكثرِ ما يعتصرُ القلبَ رؤيةُ الأطفالِ يجرُّونَ أنْفُسَهُمْ في شوارعِ الظّلماتِ ليطلبوا قوتَ عَيْشِهِمْ، وما أصعبَ على طفلٍ أن يعملَ "عتَّال" وما يزالُ عمودَهُ الفقري لينا كغصنِ الشّجرةِ الأخضرِ. حلوى هلْ من مُشتَري، مناديلَ ورقيةً هلْ من مُشتَري، ماء هلْ من مُشتَري، تتقطَّعُ حبال صوتِ طفل وهو يُنادي ليبيعَ ما هو في أشدِّ حاجةٍ إليهِ وربَّما من أمنياتِهِ أنْ يَحصُلَ عليهِ، ليسَ هُناكَ طِفلٍ لا يُحِبُّ الحلوى فيا تُرى ما شعورُ ذاكَ الَّذي يبيعُها والمناديلُ الورقيةُ أليسَ بحاجةٍ لَها أيضا كي يمسحَ دموعَه في كلِّ ليلةٍ والماءُ الَّذي يحتاجُهُ لكي يَروي بهِ ظَمأَهُ بعدَ أنْ جفَّ حَلْقَهُ منَ النداءَ والتّنقلِ بينَ الأزقةِ.
   
ما ذنبُ هذهِ البراعم كيْ تتحملَ كلَّ هذهِ الأعباء والآلام، كلُّ دمعةِ طفلٍ أشعرُ بِها وقوداً يحترقُ في قلبي، فَترى الطفلَ الذي يخضعُ لرحمةِ عصابةٍ أو شخصٍ يستغلّهُ ليبيعَ في الشّوارعِ العامةِ وعندما يعودُ وليسَ في جُعبَتِهِ سوى القليلَ منَ المالِ ولمْ يبعْ جميعَ ما لديهِ سيُضرَبُ ويُهمَّشُ ويُحرَمُ مِنْ كِسرةِ خبزٍ يابسةٍ على العشاءِ هذا الطِّفلُ مَنْ يحميهِ، من سيُداوي جروحَ جَسَدِهِ الناعمِ، منْ سيُداوي خُدوشَ روحِهِ.
      

والطِّفلُ الذي تهدَّمَ المنزلُ على مرأى مِنْ عَينيهِ ورأى الناسَ أشلاء وقِطعَ متناثرةً ورأى المدينةَ تغرقُ في الدّماءِ، وفقدَ أشخاصاً أعزّاءَ على قلبِهِ ثمّ يَبقى أسابيعاً وأشهراً بدونِ طعامٍ، يعيشُ داخلَ الحصارِ ويسمعُ القصفَ والرصاصَ ويرى النيرانَ والدمارَ ثمَّ عندما يجدُ منفذاً للخروجِ ويسافرُ وهو في داخلِهِ غصةٌ أنَّه مسافِرٌ، يَحتقرهُ الناسُ ويقولونَ لاجئ ونازح وتَرك وطنهُ من أجلِ أن يتلقّى المساعداتِ الإنسانيّةِ، لا يعلمونَ أنَّه لا يجدُ أجملَ من ساحاتِ وطنِه وأنَّ كلَّ ركنٍ كانَ يختبئُ فيهِ أثناءَ لعبِهِ" الغميضة " معَ رفاقِه قد تهدّم، وأنَّ نِصفَ اصدقائِهِ استُشهِدوا وصاروا عصافيراً تزقزقُ في الجنَّةِ.

 

undefined  

يحمِّلونَ الطِفل وِزرَ كلِّ شيءٍ، فعندما يجدونَ طفلاً ملقى على حافّةِ طريقٍ أو موضوعاً على بابِ مسجدٍ يسارعونَ على الإجماعِ أنَّه ابنُ حرامٍ وما أدراكُم أنَّه كذلكَ! لربّما سرقَهُ أحدهُمْ مِنْ والديهِ لينتقمَ مِنْهما ثمَّ رماهُ، أو ماتَ والداهُ ووضعَهُ أحد اقربائه لأنَّه لا يستطيعُ أنْ يؤمنَ لهُ سُبلَ العيشِ والرّاحةِ، حتَّموا على ذلكَ الطّفلِ انّهُ ولدُ حرام وحتّى لَوْ كانَ ابْنُ حرامٍ ما ذنبه هو فَهَلْ هوَ مَنْ قامَ بهذا الحرام أم أمّهِ وابيهِ مسكينٌ طفلٌ مِثلُه هو تلكَ الضَّحيةُ للأنانيةِ وانعدامِ الأخلاقِ.
    
وأمَّا الطفلُ الفقيرُ ينادونَهُ "بابن الشوارع" فما ذنبه إنْ ولدتّم أنتم في قصورٍ ضخمةٍ من الرخامِ الفاخرِ والكريستالِ وتنامونَ على فراشٍ من الرّيشِ وهوَ ولدَ فيْ كوخٍ صغيرٍ لا يتَّسعُ لثلاثةِ أشخاصٍ. أينَ الإنسانية؟ وإنّي لأرى كلباً يحنُّ على طفلِ قطٍ وأرى الإنسانَ يعنِّفُ طفلاً بدونِ أيَّةِ شفقةٍ أو رحمةٍ وكأنَّ الضميرَ لديهِ تبخّرَ وصارَ سراباً، ما أقسى القلوبَ البشريةَ. لن نحصلَ على مجتمعٍ لا تكثرُ فيهِ الجرائمُ إلّا إذا نَظرنا إلى الأطفالِ على أنَّهم أطفال .ألمْ يتساءلْ أحدكم مِنْ أينَ تأتي السرقاتُ والقتلُ والفسادُ والحروبُ والانحرافُ والادمانُ.. إلخ. أنا لديَّ الجواب إنَّه من إهمالِ الأطفالِ وتَعنيفِهم وسرقةِ البسماتِ عَن وجوهِهِمْ وفُقدانِهِمْ للرأفَةِ والمحبَّةِ.

 

الأطفالُ هُم النّعمةُ التي أكرمَنا اللهُ بِها، هُم جمالُ الكونِ واستمراريةُ الوجودِ وهم أفراخُ الطّيورِ المغردةِ والبراعم الخضراء الطّرية، هم أصحابُ البسماتِ البريئةِ، والخاليةُ قلوبهم منَ الكُرهِ والبغضاءِ، فلا تكونوا بخلاء عليهم بابتسامةٍ أو بمسحةٍ خفيفةٍ على شعرهِمْ مليئةً بالمحبةٍ كونوا لطفاءَ مَعَهُمْ. فكلُّ طفلٍ في أيِّ مكانٍ كان، وابن أيِّ كانَ يتيماً أو فقيراً أو مشرداً أو متسولاً هو طفلٌ مثلَ أطفالكم لكنَّهُ فقدَ منْ هُم مِثلكم، فقدَ اليدَ الحانيةَ والعطوفةَ وفقدَ الحضنَ الدافئَ الَّذي يستقبلُهُ عندَ خَوفِهِ وحُزنِهِ. توفيق زياد قال ما يشعر به قلبي في قصيدته المغني: "ﻭﺃﻋﻄﻲ ﻧﺼﻒ ﻋﻤﺮﻱ، ﻟﻠﺬﻱ ﻳﺠﻌﻞ ﻃﻔﻼً ﺑﺎﻛﻴﺎً ﻳﻀﺤﻚ..".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.