شعار قسم مدونات

كيف حوّل جمود الجامعات الجزائرية أفضل أيّامي إلى أسوئها؟

blogs التخرج

الجمود الفكري هو سمة ملتصقة بالدّول العربية ولا يبدو أنّها ستفارقها قريبا. فالجمود الدّيني وحده قد سبّب لنا كدول وكأمّة إسلامية أذى كثيرا نعاني تبعاته في مختلف مجالات الحياة، وجمود العادات والتّقاليد الّتي قد يتمّ تقديمها على الدّين جعلتنا هي الأخرى نتخلّف عن الرّكب. لكن ما لم أحسب له حسابا هو أن يلاحقني هذا الجمود في الجامعة ليفسد عليّ ما يُفترض أنّه اليوم المنتظر.

فبعد معاناة أربع سنوات من الدّراسة الّتي منحتُها كلّ وقتي وبعضا من صحّتي أيضا، جاء اليوم الفصل وهو اليوم الّذي أناقش فيه رسالتي للدّكتوراه. بدأ الأمر سلسا نوعا ما رغم كلّ التوتّر، فقد كنتُ قادرة على توضيح فكرة بحثي بما يكفي لأثبت أنّني عملت بجهد عليه.

لكنّ هناك توجّها مشتركا في الجامعات الجزائرية لا أدري إن كان موجودا في بقيّة الجامعات العربية، وهو أنّك، كأستاذ جامعي، إن لم تجد نقطة ضعف للطّالب، عليك أن تهاجمه بأيّة طريقة كانت لتكسر فرحته ولتثبت أنّك أعلى منه درجة وقدرا! لا أدري كيف انتشرت هذه الفكرة بين أساتذة الجامعات الجزائرية فصارت تقليدا متّبعا في أيّام تخرّج الطّلبة.

 

بعد أن اقتربت مناقشتي من نهايتها، دخل أساتذة اللّجنة في نقاش معي من نوع آخر، لعلّني أسمّيه ب "التدخّل في الأمور الشّخصية"

على الأستاذ الجامعي أن يفهم أنّ درجته تلك لا تسمح له بالتّطاول على النّاس، التّواضع وحده هو من يصنع الشّخصيات المؤثّرة المحبوبة والخالدة في أذهان محبّيها، أمّا ذلك الّذي يظنّ نفسه قد بلغ الأفق بعجرفته فلم يحقّق شيئا سوى مشاعر الأسى والشّفقة عليه من قبل الطّلبة، فتارة يطلقون عليه لقب "فارغ الشغل" كأنّه لا يجد ما يفعله في حياته سوى الجري وراء الطّلبة، وتارة يلصقون به صفة "عقدة النّقص" لغيرته من صعود جيل شابّ قد يساويه قريبا في رتبته أو قد يتفوّق عليه.

وما حدث معي يبرهن مدى غرابة ما يحدث في جامعاتنا. فبعد أن اقتربت مناقشتي من نهايتها، دخل أساتذة اللّجنة في نقاش معي من نوع آخر، لعلّني أسمّيه ب "التدخّل في الأمور الشّخصية". فقد ترك بعض أعضاء اللّجنة البحث وما نتج عنه واهتمّوا بالسّؤال عمّا كتبته في الإهداء ولمن وجّهتُ كلمات الشّكر. وكنتُ قد كتبت أنّني ممتنّة كثيرا للكتب وقصص المانغا لأنّ قراءتها تخفّف من توتّر الدّراسة، وأيّ قارئ سيفهم أهمّية أن أخصّ المطالعة بالشّكر.

 

لكنّ أعضاء لجنتي لم يعجبهم ذلك فقد بدا لهم غريبا أن أشكرا جمادا! وليس هذا وحسب، بل قد أرادوا التدخّل في هواياتي الشّخصية بالقول أنّ التحدّث عن قصص المانغا سينقص من قيمة الرّسالة! ورغم أنّني حاولتُ أن أشرح لهم برحابة صدر أنّهم لا يفهمون أصلا عمّا أتحدّث وأن لا دخل لهم بحياتي الخاصّة إلّا أنّهم ككلّ الكبار في البلاد العربية، لا يستمعون سوى لأنفسهم دون السّماح للطّرف الآخر بشرح وجهة نظره! والمأخذ الثّاني والأكثر غرابة هو رفضهم للإهداء الّذي أردته إهداءا خاصّا فكتبته لمجهول لم أرغب أن يطّلع عليه أحد سواي. وقد كاد تأثير الغرابة من تدخّلهم في شؤوني الشّخصية أن يجعلني أخرج من القاعة ضاربة بالمناقشة الّتي تحوّلت إلى تفاهة عرض الحائط، لولا الرّفاق الّذين استطاعوا تهدئتي من بعيد.

الحقيقة أنّني شخصيا شهدتُ عدّة جلسات تخرّج لم يكن للأساتذة همّ فيها سوى حشر الطّالب في الزّاوية ليشعروا ببعض الرّضى عن أنفسهم
الحقيقة أنّني شخصيا شهدتُ عدّة جلسات تخرّج لم يكن للأساتذة همّ فيها سوى حشر الطّالب في الزّاوية ليشعروا ببعض الرّضى عن أنفسهم
 

وكوني باحثة لم أضع تلك اللّمسات الشّخصية إلّا بعد أن بحثت كثيرا ووجدتُ باحثين مثلي قد استهلّوا رسائلهم بجمل غريبة أو مضحكة تدلّ على أمر واحد فقط وهو أنّ كاتب هذه الرّسالة هو بشري. فمساحة الإهداء هي المساحة الوحيدة الّتي تسمح للكاتب بأن يبرز لقرًائه شيئا من شخصيته ومشاعره، وهو أمر طبيعي تماما ومقبول لا تأثير له على مضمون البحث ولا قيمته.

الحقيقة أنّني شخصيا شهدتُ عدّة جلسات تخرّج لم يكن للأساتذة همّ فيها سوى حشر الطّالب في الزّاوية ليشعروا ببعض الرّضى عن أنفسهم. لكن على النّقيض من ذلك، هناك فئة معاكسة تبدو لي أقلّية ممّن يتعاملون بنضج مع الطّلبة، فتجدهم يمنحون الطّالب شجاعة بدل توتّر وحقد، ويعلّمونه ما يجهل بدل التّركيز على إظهاره بمظهر الطّالب الغبيّ أمام الأستاذ العبقري! وتلك الفئة وحدها من تحظى بالإعجاب وتظلّ قدوة يتذكّرها الطّلبة بعد تخرّجهم لعدّة سنوات.

نهاية ذلك الوضع المأساوي كانت إجباري على حذف العبارتين الوحيدتين اللّتان أخبر بهما العالم أنّني إنسان معيّن لي كيان مميّز عن البقيّة وشخصية تجمع بين حبّ مجالات مختلفة، لأضيف إلى مكاتب الجامعات الجزائرية نسخة أخرى من الأبحاث الّتي كُتبت بواسطة آليين كانوا قد دخلوا الجامعة بشرا ورغم مرور أكثر من سنة على ذلك اليوم الكئيب ورغم حصولي على أعلى الدّرجات عقب انتهاء المناقشة، لا يزال ألم إجباري على حذف جزء من شخصيتي في الرّسالة غصّة عالقة في حلقي تزيدني حنقا يوما بعد يوم على اختياري لمجال البحث الأكاديمي الفاشل في بلادي. ولعلّ أكثر ما سأندم عليه هو عدم مقاطعة تلك المناقشة المثيرة للسّخرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.