شعار قسم مدونات

فشلتُ كثيراً بما يكفي لأنجح!

blog - الفشل سر النجاح 2

كباقي الشبان المغاربة، كنتُ أكبرُ وفي جعبتي من الأحلام عدد السنين التي جمعتها في حقيبة سفري في هذه الحياة، كنتُ طامحاً إلى أن أحقق ذاتي عبر الاستثمار وإنشاء مقاولة. كان الخطابُ الرسمي الذي يذاع عبر التلفاز مشجعاً ومحمساً من قبيل تشجيع مقاولات الشباب ومساعدة الشبان على تحقيق أحلامهم. وكثيراً من اللغو والحديث. كانَ الحماسُ متقداً والرغبة جامحة، فكنتُ كجامع الكنوز الذي سمعَ للتو عن قصة كنز وسط دغلٍ تخفيهِ أجمة عَتمة. جمعَ كل قواه وشجاعته وموهبته فأقدمَ على استكشاف الغابة وفي نفسه أسئلة كثيرة. أيسعني كلّ هذا الحماس في الوصول إلى الهدف؟ أيكفيني يقيني أن ثمة في نهاية الطريق كنزاً؟ أم أنها مغامرة متهور في غابة لن تتكلل بالنجاح لانعدام الظروف الملائمة لإنجاحها؟ إلى آخر علامة استفهام قد ينطق بها وقفٌ على باب مغارة مظلمة، وفي النهاية أسيكون ثمة كنزّ أجمعه أم أسدٌ يفترسني؟

 

لا يهم فقد تجاوزت عندي الرغبة بالإرادة بعد أن قطعتُ في الدراسة والتفكير للمشروع سنتين. غادرتُ عملي السابق في شركة فرنسية بمدينة الدار البيضاء لأسباب صحية. بقيت بلا عمل حولاً. عرفت حينها معنى البطالة وقلة ذات اليد مع أن لا شيء كان ينقصني بفضل العائلة. جمعتُ مالاً مما كنتُ ادخر للمشروع وكان ما زال ينقصني الكثير لأصل إلى الحد الأدنى المطلوب. وجهتي التي أبحث فيها عن تحقيق الذات لم تكن الغابة طبعا، لكنها كانت في مجال تكنولوجيا المعلومات. كان مجالا مغرياً وجذابا وهو بالمناسبة مجال تخصصي العلمي. أنشأت مشروعي وبدأت أبحث عن فرص. مرّ وقتٌ ولم أحصل على فرصتي أو مشروع أنجزه لأن كل العروض كانت تشترط تجربةً ومشاريعا تمّ تنفيذها من قبل كشرط. بالتأكيد أمضيت سنة في تسيير المقاولة الصغيرة التي كانت في طور المخاض. كان مخاضها عسيراً ليصبح موتاً عاجلاً، وجنينا اقتصاديا لم تكتب له الحياة. ماتت بين يدي وعلى يدي وشعرت حينها بفشل ذريع أدخلني غرفةً مظلمة يطبعها الشك. انتهى بي المطاف باحثا عن عمل.

 

أمضيت بعض الوقت في التفكير والبحث عن عملٍ، كنت حينها أجد فرصاً لا تلائم تطلعاتي ودبلوم دراستي العالي ولا أستطيع قبول تلك الفرص التي تتاح لي. كانت لدي موهبةٌ في الكتابة. لم أنسها إنما كانت كالمرهم الذي يداوي جراحي التي لا تلتئم. إدماني الكتابة والتأليف تكلل بإصدار رواية في سن الخامسة والعشرين. على الأقل حققت حلماً واحداً وعجزت أن أكون الشخص الذي أريد. لم أنتظر فرصة العمل مرة أخرى، إنما استجمعت قواي وجمعت بعض المال واقترضتُ مبلغاً إضافيا. هذه المرة اخترت أن ألج عالم الهواتف النقالة والمعلومات، مجال يعرف رواجا وفرص تحقيق النجاح فيه تبدو ممكنة. استثمرت في محلات وكانت تعرف رواجاً لا بأس به، ثم بعد ذلك بسنتين أصبحتُ صاحب تجربة وتعرفت إلى مجال الاستثمار وعوائقه ومشاكله. تعرضت لكثير من العراقيل في البداية واضطررت أن أغلق محلاً وافتح آخر وأنا في طريق الحلم الذي كان يراودني منذ الصغر، أن أصير رجل أعمال ناجح.

أصبح حلمي بعد سنة حلم كثيرين، أسعد بأن أرى على وجوههم بسمة مشرقة وأنا أضع بين أيديهم كتابا كان فكرة ثم صار واقعاً. صرتُ أتلقى رسائل شكر أن ساهمت في تحقيق حلم كاتب وكاتبة.

صقلت موهبتي في الكتابة والتأليف وعرفتُ نجاحاً مرضيا في المجال الثقافي الأدبي غير أن علاقتي بالناشر كانت دافعا آخر لشيء جديد. كان ناشر إحدى أعمالي رجلاً مسناً ضاربا في السن والتجربة، دفعت لهُ مقابل روايتي مبلغا سخياً، عرفت بعدها بسنوات أن طباعة كتاب لا يستحق كل هذا العناء. لكن البدايات في بلدي تكون دائما صعبة والعراقيل كثيرة وفرص النجاح كفرص النجاة وأنت تهوي من الطابق السابع، شبه منعدمة تماما. ورغم ذلك تناسيت استغلال الناشر لرغبتي الملحة، فقد كشر عن ناب طمعه أمام رغبتي بعد أن هزمت مراتٍ أمام الباب المغلق. لم أجد جوابا لأسئلة كثيرة حملتها معي في طريق الحياة.

 

وقبل عامين من الآن، عاودتني فكرة المشروع مرة أخرى. ونسيت الفشل الذريع الذي قادني في تجارب مؤلمة. تجارب فقدت خلالها الكثير وذقت مرارة الفشل والانهزام والوقوف عند الباب المغلق وقد أسقط في يدي. وقفت لدى الباب مرة اخرى، ولكن هذه المرة لأجرب لغو المؤسسات المهتمة بالشباب والاقتصاد. هذا المدير غائب، الآخر لا فكرة لديه عن مجال النشر والكتاب، وآخرون يضعونك أمام طريق مليء بالعقبات. كانت شروط الحصول على تمويل مستحيلة التطبيق ومعقدة المساطر ويطبعها الانتظار والملل. جربت خلالها كل الطرق متسلحا بإرادة قوية خلقها الفشل الذي عشته مرات ومرات. طرحت الأسئلة ووقفت على باب الكثيرين، مر وقت ولم أتلق رداً.

 

لا يجب علي أن أعود أو أقوم بنصف دورة في منتصف الطريق، لذلك اعتمدت على ما توفر لدي من مالٍ وحصلتُ على مبلغ متواضع من أحد الأصدقاء الذي يشاطرني هم الحلم وتحقيق الذات. صديق جره الحلم إلى بلاد الأحلام عن طريق الهجرة نحو أمريكا. ثم حصلت على مساعدة من شخص قريبٍ جمعتنا الحياة والظروف والافكار وكل شيء. أخيراً لدي من المال ما يكفي لأبدأ مشروع دار نشر. أول دار نشر مغربية حديثة يترأسها شابٌ ويملك أسهمها مائة بالمائة. كانت التعاليق قاتلة ومحبطة، فالثقافة عندنا آخر ما يفكر فيه الشعب. والكتاب ليس بالأهمية التي يحظى بها الخبز والشاي. ورغم ذلك استطاعت الشركة أن تقف وأن تنافس رغم الإكراهات. كان الدافع المعنوي حافزا كبيراً وكانت فرص النشر متوفرة ومتاحة ولكنها مغامرة خطيرة وتهور جسور، على حد قول أحد الكتاب وتعليقه.

 

ولأن كل الأحلام تواجه بالانتقاد في وطني، كان علي لزاما أن أقفل أذني بفضل تجارب الفشل الأولى. ولأن الأفكار في بلدي لا تستحق التشجيع كلما تعلقت بالفكر والثقافة وانحازت عن الهرج والغناء، لم ألق أي دعمٍ من الوزارة والمؤسسات، بل كباقي مجالات الاستثمار وكالغابة تماما، يلتهم القوي الضعيف وينحني القوي أمام الأقوى. غير أن المشروع بقي متماسكا واقفا على قدميه رغم العواصف والاكراهات. أولها كان القانون أو مدونة التجارة كما يصطلح عليها، ثم يعقبها المجتمع الذي لا يشجع الأفكار بل يضع كل ما يستطيع من حجر في طريق تحقيقها.

undefined

 

أصبح حلمي بعد سنة حلم كثيرين، أسعد بأن أرى على وجوههم بسمة مشرقة وأنا أضع بين أيديهم كتابا كان فكرة ثم صار واقعاً. صرتُ أتلقى رسائل شكر أن ساهمت في تحقيق حلم كاتب وكاتبة، بل جيلٍ جديد من الكتاب والمؤلفين. لقد تعلمت من الفشل وذقت مرارته، ولأن الدواء دوما ما يكون مراً كان علي أن أستمر على حمية الصبر والقبول بالفشل، ثم تغيير الخطة. واللعب من جديد. حينها تعلمتُ أن الحياة لا تمنح إنما تؤخذ، وأن الحلم كالمخاض لابدّ له من ألم، لحظات ألم عصيب ومرارة حارقة، إلا أن دقيقةَ نجاح واحدة تكفي لتشفي غليل سنوات مُرة كابدت خلالها كل شيء. وما زلت أطرح السؤال في بلد يقتل أحلام الصغار من أجل بقاء الكبار، ويضع عراقيلاً أمام الأحلام.

 

قريني هاجر، وأصدقاء منهم من قضى نحبه غرقاً في سبيل الحلم وآخر وصل إلى جهة في الشمال ليحظى بفرصة حياة. وآخرون اختاروا الوظيفة من أجل الأمان كمن يجرفه النهر فيرضى بحفرة صغيرة بدَل السقوط في وادٍ مفتوح أو بئرعميقة، بينما اخترت أنا وأمثالي من الحالمين المغفلين البقاء وسط النهر والقتال، وعزاؤنا الوحيد في حماسة الشباب نسير على منوال القول المأثور؛ يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، هل تعلمون لماذا؟ لا لشيء سوى لأنني فشلت كثيراً بما يكفي لأنجح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.