شعار قسم مدونات

إيزابيل في خيال أنطونيو تابوكي

مدونات - رواية إيزابيل

أنطونيو تابوكي، شاعر وكاتب إيطالي أهداه خياله فتاة أسماها إيزابيل، وجدت في لشبونة في حقبة اللازمن، الماضي القريب الماضي البعيد، الحاضر والمستقبل، لا يهم، لكن إذا نظرنا في التقسيم الزمني الموجود في يومنا هذا فانه في ثلاثينيات القرن المنصرم في دكتاتورية سالازار الفاشية في البرتغال. قد لا تكون إزابيل اليوم سوى محض خيال ابتكرها أحدهم ليجابه بها واقعه الذي يرفض أن يستحيل إلى عدم كما هي إزابيل، إلا أن إزابيل نفسها أيقونة ينافس فيها الوجود العدم. 

 
"لقد هربت نحو العدم " في عدم مماثل تحت ضوء قمر في ليلة صيفية تقول إزابيل وداعاً مرة اخرى لتاديوس. لوهلة يهيأ له بأن ليس أمامه إلا أن يصدق بأنها ما كانت سوى رسولة بعثتها إلهة العدم لكفرة تؤمن بالوجود، أو تراميز أرسلت من السديم رداً على فلكي بعث رسالة مشفرة عبر تلسكوب بدائي الصنع قبل مئتي عام. أو ربما هالةً أو وهجاً كان هناك ذات يوم ولم يعد. ترى إزابيل نفسها بأنها ليست إلا رسالة شعرية ثورية نذرت لحياة الشيوعيين في جميع أنحاء العالم، من إحياء لشبونة البائسة، إلى جنبات الكرز في ريف ميلانو إلى الدير القديمة في تلال ماكاو إلى اخره أو إلى ما لا نهاية. كانت إزابيل أو لم تكن. كانت صرخاتاً، أناتاً، نغماتاً أو ما شابه، كانت هالة ثورية أجهضت قبل اكتمالها. 

 

من جهة كانت إزابيل ضحية استرسالها لافكارها المتمردة. ومن ناحية اخرى ضحية قراءاتها لأفكار مغايرة لبعضها البعض من فاشيين وشوعيين إلى مؤمنين بالسريالية. قد لا ترى هي نفسها كذلك لكن أحدهم يراها كذالك. أحد ما تغلغل إلى سراديب الوجود هارباً من حدود العدم لبعض الوقت. إزابيل بالنسبة له الان طيف انتهى وسرت في طياته بعض ذكراه أو فترة من عمره قضاها ثوريا سريا في نادي الشباب الشيوعي. 

 

هناك في النادي الشيوعي كانت إزابيل ملقية شعر تقعد في بيتها لقاءات حملت قالب الأمسيات وإن كانت في واقع الأمر مؤامرات لقلب نظام الدولة

كان نادي الشباب الشيوعي تأسس في ثلاثينيات القرن العشرين على يد مجموعة طلبة في الجامعة رأوا في المغامرة ما لا يضير. أو بصفة اخرى ضاقوا بتلك الحياة ذرعاً. في طبيعة الواقع الشباب اكثر من يشعرون بوخزة السكين في ظل الحكومات، لأنهم يشعرون بنوع من الخيانة والغدر تجاههم، بأن حياتهم التي هم للتو مقبلون عليها تسرق منهم عنوة فيتحولون فجأة إلى ثوريين. 
 
ما الذي يصنع من الإنسان ثورياً، أو مناهضاً لأيديولوجية ما ومؤيداً لأخرى؟ أهو العقل الإنساني المحض الذي يربط كل شي موجود بفكرة التكفير، بالجنة والنار، أم رغباتنا الانسانية التي لا تجد ما يسدها من رمق، فتستحيل لثورة عارمة تزيح حكومات فهي جديرة بأن نسميها ثورة الجياع أو ثورة البطون الخاوية. أم أن الإنسان لوهلة يقع ضحية كتب يقرأها بالصدقة، أو تسللت لحياته بطريقة ما، فيجد نفسه خاوياً سوى مما يقرأه لتتشكل عنده تلك الأيديولوجية المتمردة ليستفيق على مجتمع يتربع على عرش الهاوية، فيجد هوة بينه وبين المجتمع، أما هو من وجهة نظر المجتمع هائم به مَس، أو مختلاً سفاه خياله. 
 
هناك في النادي الشيوعي كانت إزابيل ملقية شعر تقعد في بيتها لقاءات حملت قالب الأمسيات وإن كانت في واقع الأمر مؤامرات لقلب نظام الدولة. ورويْ الشاعر البولوني الذي طالما كانت أشعاره توحي بتوجه سوريالي وتتسم بنقذ لاذع للفاشية، وبالأحرى كانت أشعاره بحاجة لحنحرة أنثوية تصدح بها. وتاديوس عازف كمان جاء من إسبانيا ليدرس في المعهد الأدبي البرتغالي في لشبونة. كان النادي بتماسكه يتمسك بخيط يمتد لأيام إليو ڤيتوريني فيستمدون منه من الأشعار ما يشدهم على المواصلة. نحن لسنا هنا بصدد تحليل الفكر الشيوعي، وما إذا كانت الخيار الأصوب لايزابيل وتاديوس في تلك الحقبة، لكن مما لا شك فيه أن اي تحرك أو تبني لفكرة مغايرة لفاشية سالازار كان وجهاً اخر للتنفس. النظام الاستبدادي الذي فرضه سالازار في البرتغال خلال فترة كونه رئيساً للبرتغال ما سماه "نوفو استادو" أو الحكومة الجديدة، كانت بحد ذاتها باعثاً للاختناق تدفع الانسان للبحث عن الحياة في ظل أيديولوجيات أخرى. 

 

إيزلوفاكي المسكين أو تاديوس كما يحب أن يقال له، هل كان سيواجه نفس المصير لو أن مجال حياته كان مختلفاً قليلا عما كان لو أنه لم يكن شيوعياً مثلاً! ربما عندها ما كان ليتعرف على إزابيل، لأن إزابيل لم تكن لتكون الا ما كانت، رسالة شعر ثورية من سديم ما وراء المجرة. بدأت إزابيل بنشر مقالات في مجلة شيوعية باسم مستعار هو ماغدا مما جعل الشرطة السرية تبحث عنها بشكل مكثف. تقع إزابيل في يد الشرطة ويلقى بها في سجن كاشييس في لشبونة. في تلك الفترة تشاع اخبار عن انتخارها في السجن عن طريق بلع زجاج، هكذا يتم نعي إزابيل ويقام لها قداس اليوم السابع في كنيسة انكارنازو آكاسكايز وتطوى صفحة من كتاب كان اسمه إزابيل. 
   

undefined

 

يهيأ لإيزلوفاكي أنه يقف الآن على نفس الباخرة مع إزابيل بعد ثلاثين عاماً من وداعهما ذاك، "يسألها بأسى؛ أين نحن الآن يا إزابيل؟ فتجيب: إننا في ساعاتنا تلك، إننا في تلك الليلة التي قلنا فيها وداعاً. أجاب: هذا غير ممكن يا إزابيل اننا في ساعتنا هذه. أجابت إزابيل: هذه الساعة وتلك الساعة أُلغيتا، لكننا في حاضر كل منا. هكذا كانت حياتي، لقد هربت نحو العدم لكني أفلحت وقد وجدتني الآن في آخر دائرة من دوائرك، لكن أعلم أن دائرتك تلك هي العدم بالذات، عدمي الذي أوجد فيه الآن، لقد أردت أن أغيب في العدم وقد نجحت، وفي هذا العدم تجدني الآن في رسمتك الفلكية" رواية إيزابيل.

  

لم تمت إزابيل منتحرة كما أشيع، بل هربت من السجن وجالت كدوائرة وحلقات حول مركز معين، دارت كما تاخد الأزمان دورتها متعاقبة متفاوتة علينا فإذا بها الحلقات وإذا بِنَا نحن المركز. متى ينعدم الوجود في حياتنا؟ ينعدم حين نفقد التفاصيل الصغيرة من يومنا حين تصبح حياتنا مجرد روتين. كأن تفقد فيها الرغبة بالكتابة مثلاً والاستمتاع بقهوة صباحية في الساعة الثامنة. حين تتشابه ساعات يومك وتفقد كل ساعة طعمها الخاص، ولا تثير فيك هبوب الرياح رغبة في الكتابة ولا يستفزك برعم يعاند الأرض للخروج ولا شذو طائرين فوق سطح بيتك فرحاً بأنهما وجدا بعضهما اخيراً. تفقد كل هذه التفاصيل تلك القدسية التي تتوج بها حين ننظر إلى الحياة نظرة العاشق وتصبح حياتك كلها عبارة عن سيناريو شاهدته في فيلم ما. 

 
حين تفقد ترنمات الشعر نكهتها على شفتيك، ولا تجد قوافي القصائد الهاربة ونصوص التلاوات القديمة لحنها في ترددات صداك. حين تختلط أبيات درويش مع تكهنات الفيتوري فلا تدري من منهما أنت، أأنت الدرويش بتبعثرتاه ام الفيتوري بتراجيديا انتماءاته. تتقافز إلى ذهنك معزوفة لدرويش متجول، تبدأ تردد اقواله "غيري أعمى مهما أصغى لن يبصرني، فأنا جسد حجر، شيي عبر الشارع، جزر غرقى في قاع البحر حريق في الزمن الضائع "ثم تراك تندفع نحو موجات اخرى تردد بلا هدي منك أبيات محمود درويش" أنا للطريق، هناك من تمشي خطاه على خطاي، ومن سيتبعني إلى رؤياي. من سيقول شعراً في مديح حدائق المنفى أمام البيت حراً من عبادة أمس، 
حراً من كناياتي ومن لغتي، 
فاشهد أنني حيّ وحرّ حين أُنسى"
    
نخوض غمار الضباب بين فرضية العدم وثبوتية الوجود وننتهي بجدار شرشفي يفضي بأننا موجودون. وفي هذا الضباب توجد أنت وأوجد أنا ويوجد العدم. وفي لحظة ما بعيدة عن مقتبس كِلينا نتيه في تيه قرمزي جميل، يحضر الغياب ونراقص الموت والحياة في آن على إيقاع مقطوعات بيتهوفن. ونتمايل معلًّقين بينهما إلى أن نتلاشى إلى أن ينعدم الوجود أو يوجد العدم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.