شعار قسم مدونات

كيف برر القضاء المغربي أحكامه ضد نشطاء الحراك الريفي؟

مدونات - الزفزافي حراك الريف

قالوا منبت الأحرار، فلما نبت الأحرار سجنوهم. فقالوا مشرق الأنوار، فلما أشرقت الأنوار أطفؤوها. ثم قالوا منتدى السؤدد وحماه، فلما ظهر أهل السؤدد لم يحموهم، بل حاربوهم وعادوهم.. إنهم "هم"، أولئك الذين نتحدث عنهم بصوت خافت خوفا من شجر يسمعنا أو صخرة تشي بنا. نسميهم في المغرب "أصحاب الحال" أو "اللي على بالك"، المهم أن الكل يعرفهم ولا أحد يعرفهم في نفس الآن. إذا كنتم تستغربون، فهذا الوضع ليس غريبا بل مغربا.

  
في شمال المغرب توجد مدينة الحسيمة الجميلة، جمالها من سحر هدوئها وحشمة أهلها، ولكن وراء بسمة وجوه وصبر قنوع كان يقبع انتظار حارق لبرلمانـ"هم" ووزير"هم" وواليـ"هم".. أيا من يكن، فالأهم هو الخلاص من ظلمة سنين. وبعد سنوات من الانتظار والصمت، لم يقابله سوى استفزازات واختبارات متكررة للصبر، انتفض الأهالي أخيرا وقرروا الكلام فسمعهم العالم. إنهم الأحرار الذين نبتوا، والأنوار التي أشرقت، من أجل الدفاع عن سؤدد مفقود تعرض لشتى أنواع المهانة والنكال. وبدل الافتخار بمن يجسد نشيدنا الوطني، صدمهم القضاء، باسم جلالة الملك، بأحكام جمعت بين القسوة والجور، فمن يصدق الأناشيد؟

 

المغرب إذا كان يرغب في السير نحو الديمقراطية، عليه نسيان منطق سجون السلاطين التي استهدفت الانتقام، والتفكير في إرساء سجون عهد الديمقراطية التي تستهدف إصلاح الأفراد

إن صورة والدة ناصر الزفزافي، القائد الشاب لحراك الريف الذي حكم عليه بـ20 سنة حبسا نافذا، وهي غارقة في دموع الحسرة على ابن قد لا تراه مجددا حرا، لمشهد تقشعر له الأبدان ويندى له الجبين. ولكن ليس كل دمعة تقطر على الحق، لطالما أبكت أمهات عيون صغارهن، ولطالما أبكى الحق رجالا كثيرا ونساء، فالعدل الذي أمرنا به الله وهو يعظنا ألا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، يقتضي منا عدم بناء مواقفنا على العواطف فقط، بل الاستناد على الواقعية وكثير من المنطق. وقد اعتدت على ألا أنساق نحو تغليب العاطفة والتبعية العمياء لما يقوله الناس، ولست فظا ولا غليظ القلب. ورغم أن كل ما كتبته إلى الآن يكاد يصنف ضمن الخطاب العاطفي، إلا أن هذا لم يكن أبدا ما أقنعني بالتعليق على الأحكام أنها قاسية وجائرة، وإنما بنيت موقفي هذا على منطق سأشرحه.

  
أولا: إن هذه الأحكام اتخذت على تهمة ثقيلة وهي التآمر على الوطن مع جهات خارجية، ومس سلامته واستقراره. وهذا يضعنا أمام حالتين، إما أن التهمة خاطئة وإما أنها صحيحة. فإن كانت خاطئة فإن الحكم ظلم بواح وهذا لا يتطلب نقاشا. أما إن كانت صحيحة، فإن القاضي ما دام نطق بهذا الحكم، فإما أنه قاض ظالم وإما أنه أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هناك فعلا تآمر على الوطن مع جهات خارجية. فإذا كان ظالما فهو ظلم بواح لا يقبل نقاشا. أما إذا كان عنده برهان، فنقول له هات برهانك، فالبرهان الذي يقنع واحدا عادلا سيقنع جميع العادلين إلا من ارتضى لنفسه أن يكون ظالما. فلنفترض جدلا أن فعلا يوجد برهان، ولا يريدون إظهاره.

  

فإن كشف عملية تآمر مع أطراف خارجية، لا يمكن أن يتم منطقيا إلا عبر حالتين، إما اعتراف أحد المتآمرين، وهذا ما لم يحصل. لذا تبقى حالة واحدة يمكن عبرها كشف هذا الأمر، وهو كشف طريقة التواصل التي حدثت بين المتآمرين، وهذا يعني بالضرورة كشف هوية المتآمر الخارجي أيضا، وفي هذه الحالة من حقنا كمغاربة أن نعرف من هو هذا الشخص أو الأشخاص خارج البلاد الذين يريدون بنا سوءا، ومن واجب الدولة المغربية أن تقيم الدنيا ولا تقعدها إلا بتوقيف هذا الشخص مهما كان بلده، باعتباره يرتكب جريمة يعاقب عليها القانون الدولي الذي يجرم أي عملية تآمر ضد بلد منضوي تحت لواء الأمم المتحدة، ومن واجبها أن تقدم للمجتمع الدولي هذا البرهان الذي حصل عليه القاضي لتقنعهم بضرورة إيقاف هذا المتآمر. لكن مع الأسف حتى هذا الأمر لم يحدث. وهذا يعني إما أن الدولة لا تهتم باستقرار الوطن وسلامته وبالتالي لا معنى لمحاكمة أحد بهذه التهمة، وإما أنه لا يوجد أصلا متآمر خارجي، وهذا يعني أن الحكم ظالم.

   undefined

 

ثانيا: إن اتهام معتقلي الريف بخيانة الوطن باعتبارهم لا يحملون راية المغرب، ولا يملكون صور الملك، هو أمر سخيف وغير دقيق. ذلك أن هناك فرق بين البغض والخيانة، فأن تبغض أحدا أو تكرهه لا يعني أنك تخونه. إنما الخيانة تقديم عهد دون الوفاء به، كمن يقول "هذا وطني أفديه مالي ودمي" ثم يهرب منه في أول فرصة، أو من يتعهد بخدمة أبناء الوطن والسهر على مصالحهم ثم يسرق وينهب ويفسد، أو من يقسم بالله على الصدق والوفاء في عمله ثم يتخذه أداة لتحقيق نزواته الشخصية والتكبر على العباد… هذه هي الخيانة حقا. أما بغض الوطن، فهو شعور داخلي الأحرى بـ"هم" أن يتحروا بصدق أسبابه، وعند معرفتها فليطأطئوا رؤوسهم خجلا مما فعلوا، ثم يحاسبوا أنفسهم قبل وقت لا ينفع فيه الندم، فالدنيا سائرة نحو الزوال.

  

أما إذا افترضنا جدلا أن المعتقلين يبغضون وطنهم من كل أعماق قلبهم، فإن هذا لا يستدعي سجنهم أبدا. فالمغرب إذا كان يرغب في السير نحو الديمقراطية، عليه نسيان منطق سجون السلاطين التي (أي السجون) استهدفت الانتقام، والتفكير في إرساء سجون عهد الديمقراطية التي (أي السجون) تستهدف إصلاح الأفراد. ومن هنا لا أدري من هو هذا العبقري الذي يعتقد حرمان الفرد من حريته سيبدل مشاعره نحو وطنه من البغض إلى المحبة.

  
إن الأحداث التي تتوالى على بلادنا المغرب، تبرز لخبطة عالية في تسيير الشأن الوطني، وتتسبب بشكل واضح في تأجيج مشاعر البغض نحو الوطن قد لا تزول آثارها ولو بعد سنوات طويلة، حين لن يصدق الشعب إصلاحا ولو كان صادقا، ولن يقبل مصالحة ولو كانت محسنة. وهذا يجعلنا نفهم أنـ "هم" إما لا يكترثون باستقرار البلاد ولا استمرارها، وإما يعتبرون أصوات الشعب زقزقة عصافير.. ألا إن زقزقة العصافير زفزفت أعاصير.. أفلا تعقلون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.