شعار قسم مدونات

ابنتي المصابة بمتلازمة الحب!

blogs متلازمة داون

أتعلمين يا رغد.. كل يومٍ وفي كل صلاة أدعو الله بأن يرزقُنا بطفلٍ عما قريب سواء كان ذكرٍ أم أنثى سأسميه سند.. نعم سيكون سندي وسندكِ في هذه الحياة التي تحملُ لنا في طياتها الكثير من المجهول. كان يومٍ صيفيٍ مُذهل أشرقت شمسُ الصباح وأشرق معها النور الذي سيضيئ حياتنا كَرَمُ الله ولو تأخر سيأتي ولو بعد حين بعد خمسِ سنوات انتظار بفضل الله سنُرزق بمولود.. ثمانيةُ وعشرون حرفاً لم تكن كافية للتعبير عن غمرة شعورنا في تلك اللحظة أصبحت تمرُ الأيام ونحن نعد بالساعة والدقيقة اليوم الذي سنرى به الجنين على جهاز الإيكو كيف بدأت تظهرُ ملامح جسدِه.

 

في الزيارة الرابعة للطبيبة أخبرتنا أن جنسُ المولود طفلة كانت تبدو على شاشة الإيكو مثل لؤلؤةٍ تتموج في قاعِ البحر وأخبرتنا أيضاً أن الجنين لديه مشكلة وبعد عدة فحوصات وتحاليل أخبرتنا أن طفلتي التي تنبضُ داخل أحشائي لديها "متلازمة داون" لم أكن أعي ماذا يعني متلازمة داون؟! وضحت لي أنه يكون الطفل صغيرَ الرأس عريض وبارز اللسان ذو أنفٍ صغير وعينٍ منحرفة للأعلى وقصيرِ القامة وأن راحةِ كفهِ تحوي خطاً واحداً أو اثنان على الأغلب ومن الناحية العاطفية فهم لديهم خفَةُ روح ورقيقي الإحساس حينها لم استوعب ما يحدث حولي. كانت الأملُ المُنتظر يا الله كانت أملي وسندي عمراً.

ومن هنا بدأت المعركة معركة مع نفسي مع تسعُ وتسعون ألف سؤالٍ في مخيلتي كيف سأتقبلها كيف سأتعامل معها كيف سينظر لها رفاقها وأقاربها؟! هل هي هديةً من الله أم لعنةً حاشا لله يعد عدةَ حروب يومية مع زوجي من أجل إجهاضها اتخذتُ القرار هذه الطفلة ستبقى وستُخلق على هذه الدنيا ولن اُجبر على إجهاضها تحت أي ضغط.

أصبحَ عُمرها شهر ولم أسميها بعد والدها لم يكن مهتماً لأنها بنظرهِ هي طفلة "منغولية" ستعيشُ بِضعَ سنين ومن ثم تموت لكنها كانت في عيني وفي قلبي شيئاً أخر

بدأتُ أُبحر في عالم المتلازمة وفرَغتُ كل وقتي لأبحث وأعرف أكثر عن عالمِهم أقضي طيلة النهار وأنا أشاهدُ فيديوهات لأطفالِ المتلازمة كيف هي تصرفاتهم وطباعهم وأيضاً أشخاص مختصين في إدارة حالة المتلازمة شاهدت الكثير من الفيديوهات والتقارير لأشخاص مصابي بالمتلازمة حققوا نجاحاتٍ كبيرةٍ في حياتِهم لم يُحققوها الأشخاص العاديون أنفسهم أما باقي الليل فأفَكرُ في كلام الطبيبة الذي يترددُ في مُخيلتي طيلةَ الوقت قالت لي عندما طلبتُ منها أن تُخبرني أكثر عن مصابي داون أنه الفارق بين الطفل العادي والطفل داون كالفارق بين سيارتين واحدة تعمل بمُحرك أوتوماتيك "الطفل العادي" تسيرُ بدون تدخل يُذكر منك وأخرى تعمل يدوي مانويال "الطفل داون" أي تحتاجَ يدكَ معها دائماً تقوم بنقل السرعات والضغط على الديبرياج باستمرار كي تتمكن من السيرِ كالسيارة الأوتوماتيكية.

 

كانت مؤكدة لي أن الطفل المصاب بداون طالما قمتُ بمساعدتهِ وتمرينهِ بدُنيا وإدراكية واتبعت معه برامج تأهيل منذُ الصغر سيُصبح مثل الشخص العادي هذا كان جرعةَ المخدر لوجعي وتوهُج قلبي. أيار البداية كانت البداية أنجبتُ ابنتي في صباحِ أيار اذكر تماما تلك اللحظة التي ناولتني بها الممرضة طفلتي وقالت لي "مُبارك ما رُزقتي" كانت دموعي مُنهمرة على وجنَتَي وقلبي يطرقُ وكأنه جرسُ كنيسة حملتُها بين ذراعي وبدأت أتأمل وجهها الغريب وأُنقلُ نظري بين ملامحُها هي لم تختارُ شكل أذُنَيها وليست هي من جعلت عينيها مائلتين ذابلتين لم تختارُ طولَ رقبتها القصيرة ولا استدارةِ وجهها ولا أصابعِ يدها ولا حتى ذلك التباعد بين أصابع قدميها لكن هذا كان شكلها.

أصبحَ عُمرها شهر ولم أسميها بعد والدها لم يكن مهتماً لأنها بنظرهِ هي طفلة "منغولية" ستعيشُ بِضعَ سنين ومن ثم تموت لكنها كانت في عيني وفي قلبي شيئاً أخر. قررتُ أن لا اُسميها سند لأنني أنا سأكون سندِها في هذه الحياة سأُساندُها واهتم بها واحتضنها داخل روحي لن أطلب من أحدٍ أي مساعدة فقط الصبر والقوة والصلابة من الله. اسميتها "ورد" ورد لأن وجنتيها زهريتان مثل الورد ولأنني كنتُ على يقينٍ أنها ستكون وردتي التي ستكبر وتثمر وتذهل الجميع وردتي التي لا تأفل .

 

كنتُ أماً واعيةً وصلبة كرستُ كُل حياتي لأهتمُ بها كنت أُلاقي صعوبة كبيرة في التعامُل معها لكن ابتسامةً منها تُضاهي كل ألام وأوجاع الدُنيا وبالرُغم من كلِ نظراتِ الشفقة التي أراها من الناس عليها وعليّ لم أخجل بها أبداً ولم يَضعُفُ إصراري أو أتردد يوماً على أنها ستكون مميزة.

ورد كانت هديةً من الله ووردتي التي تفتَحت بعد طولِ انتظار وفرحتي الأولى والأخيرة وأنا كنت الأم التي تُرفع لها القبعة احتراماً وتقديراً
ورد كانت هديةً من الله ووردتي التي تفتَحت بعد طولِ انتظار وفرحتي الأولى والأخيرة وأنا كنت الأم التي تُرفع لها القبعة احتراماً وتقديراً
 

بدأتُ معها من صِغرها اُعلمها النطق أول كلمة علمتُها نطقها اسمي "سند" كنتُ لما اسمعُ اسمي بصوتِها الحنون تَغمرني فرحةُ الأطفال تابعتُ معها تعلم النطق في المنزل والعلاج الوظيفي في المركز. كنت عندما يأتي الليل وأُخلدُ للنومِ أرمي نفسي على وسادتي من هولِ التعب وأفكرُ في إنجازاتها لهذا اليوم كل يومٍ كانت في تقدمٍ أكبر.

ابنَتي ورد أصبحَ عُمرها عشرِ سنوات والدها تزوج لأن الله لم يقدر لي أن أنجب أخاً لها وتركَ ليي أطنانً من المسؤولياتِ والأوجاع انها تدرسُ في مدرسة عامة مدموجة مع طلاب طبيعيين وهذا كُلهُ بسبب الاهتمام والصبر والرضا بكلِ ما قَدرهُ الله لم أتوقف يوماً عن ترديدي كونها ستكون مميزة ولم أتوقف عن اعطائي لها الجُرعةِ اليومية من الأمل ولن أتوقف عن تشجيعِها ولا عن قول أن "ابتسامتِها لا تضاهي أي ابتسامةٍ في الوجود". لم أذكُر يوماً أنني رددتُ أمام أيِ أحدٍ أنها مُصابة بمتلازمة داون كنتُ دائماً أردد ابنتي مصابة "بمتلازمة الحب".

الآن ابنَتي ورد تلكَ الطفلةُ التي كانت ذو القدراتِ المحدودة والتي دفعت كل أساتذَتُها للاستقالة لتدريسِها بعد ذلك الأملُ في الحياة. أصبحت اليوم رئيسة جمعية المرضى ب "متلازمة الحب" كما أسميتُها ونموذجاً لذوي المتلازمة الذين حققوا نجاحاتٍ كبيرة وشبه مُعجزة في حياتِهم. ورد كانت هديةً من الله ووردتي التي تفتَحت بعد طولِ انتظار وفرحتي الأولى والأخيرة وأنا كنت الأم التي تُرفع لها القبعة احتراماً وتقديراً أصبحتُ مثالُ الصبرِ والثبات. إنه حقاً مثلما قيل أن عاطفةُ الأمومة تفوقُ أي مرضٍ أو علة عند طفلها أو حتى أي نظرة مجتمعية متخلفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.