شعار قسم مدونات

فُقِدت حياة في سبيل ولادة حياة جديدة!

blog_ حياة جديدة

لا شك أن الولادة والرضاعة هي أمور بيولوجية تتميز بها المرأة عن الرجل. وتعتبر تجربة الولادة من أهم التجارب التي تمر بها المرأة في حياتها. بيد أن هذا الحدث ليس دائما مقترنا بالفرح والسعادة، ففي بعض الأحيان تدخل المرأة غرفة الولادة لكي تضع مولودها وتُفرح عائلتها وتُدخل عليهم البهجة والسرور، لكن التجربة تكلل بالحزن في نهاية المطاف جراء وقوع حدث مأساوي لا يكون في الحسبان.

 
عشت العديد من القصص في جل حراساتي الليلية كطبيبة متدربة، وتأثرت بالكثير من الأحداث، ولكنني سوف أشارك معكم قصة واحدة مختلفة عن باقي قصص الولادة التي تنتهي بحدث سعيد، حيث إن هذه القصة ذات نهاية حزينة تحمل في طياتها الكثير من الأحاسيس، كانت غرفة المستعجلات كالسوق الأسبوعي، الداخل إليها أكثر من الخارج منها والساعة تشير إلى الرابعة صباحا، حيث كان قسم الطوارئ يعج بالسيدات الحوامل. صراخ وضجيج يعمان المكان وأنين السيدات اللواتي اشتد عليهن ألم المخاض يصدر بين الفينة والأخرى.

 

كان في داخلي صوت يصرخ يا رب. تراجعت إلى الوراء ودخلت في دوامة من التساؤلات حيث أخذتني أحاسيسي التي لا أعلم إن كانت تليق باستعجالية الموقف وخطورته وبطبيبة مستقبلية مثلي

دخلت السيدة البالغة من العمر 36 عامًا، على الساعة الرابعة والنصف، على مقربة من آذان صلاة الفجر. كان وجهها شاحبًا بطريقة غير طبيعية. تقدمت نحوها وطلبت منها أن تناولني الورقة التي تحمل معلومات حول حالتها الطبية وكذا سبب مجيئها للمستعجلات. وبينما كنت أقرأ البيانات كانت السيدة تصدر أنينا خافتا يشير إلى ألم متواضع يمكنها تحمله. قمت بقياس ضغطها الدموي كما وجهت إليها بعض الأسئلة عرفت من خلالها أن حملها الحالي هو الأول ولا تعاني من أي مرض كما أنه لم يحدث لها أي إجهاض.

  

بعد ذلك، عرضت حالتها الأولية على الطبيبة التي كانت ستتكلف بمعاينتها. وعندما جاء دورها، اصطحبتها من غرفة الانتظار إلى غرفة الولادة حيث يوجد سرير الكشف. عاينتها الطبيبة المتخصصة وخلصت إلى أن السيدة في شهرها الثامن وحالتها حالة ولادة طبيعية. فجأة بدأت السيدة في الصراخ بكل ما أوتيت من قوة وعلامات الدهشة تبدو واضحة على محياها: (أنا سألد الآن، إنه آت، سألد الآن). كشفت عليها الطبيبة مرة أخرى فإذا بكلامها في محله.

  

لقد كان عنق الرحم مفتوحا بصورة كاملة ورأس المولود على وشك الخروج. كلفتني الطبيبة المتخصصة بإحضار بعض اللوازم الضرورية لحالة هذه السيدة وبعد رجوعي اكتشفت ما لم يكن في الحسبان. طبيبتان وممرضات وطلبة، كلهم يحاولون إيجاد مدخل إلى عروقها لحقن مادة الأدرينالين بطريقة استعجالية، فالسيدة التي تحمل في أحشائها طفلها، توقف قلبها عن النبض أثناء الولادة. صعدت مسرعة إلى الطابق العلوي حيث يوجد أطباء الإنعاش لأخبرهم بالحدث، فاستجابوا للنداء فورا. ثم بدأت طبيبة بالضغط على صدرها بينما تكلفت أخرى بوضع جهاز الأكسجين.

  

أمام هذا الأمر، كان في داخلي صوت يصرخ يا رب. تراجعت إلى الوراء ودخلت في دوامة من التساؤلات حيث أخذتني أحاسيسي التي لا أعلم إن كانت تليق باستعجالية الموقف وخطورته وبطبيبة مستقبلية مثلي. بعد مرور عشرين دقيقة، تقدم طبيب وأمر بإيقاف كل المحاولات فإذا بي أستوعب الواقع الأليم: لقد فقدنا السيدة.

 

كانت تعابير وجه الجميع تقول الكثير. فقد خيم الحزن على الطاقم الطبي وشبه الطبي والطلبة المتدربين. أما أنا فأحسست أن كياني اهتز بأكمله، لأنني ما زلت طالبة مبتدئة في ميدان الطب ليس من روتين حياتها فقدان مريض تلو الآخر. بعد محاولات الضغط على القفص الصدري بهدف إنعاش القلب بطريقة ميكانيكية، صار جسم السيدة أبيضا وباردا كالثلج. اكتفيت من النظر وخرجت من تلك الغرفة المشؤومة.

  

في قاعة الانتظار، تلقت عائلة السيدة خبر وفاتها كالصاعقة، فقد كانوا يصرخون ويبكون ويتألمون لفقدانها المفاجئ في سبيل ولادة حياة جديدة. خرجت مسرعة أبحث عن مكان فارغ ألتقط فيه أنفاسي وأسمح لدموعي بالتعبير عن مشاعر الحزن التي كانت تنتابني في تلك اللحظة.

 
إن هذه الحراسة الليلية من بين أكثر الأيام حزنًا في حياتي كطبيبة متدربة، بكيت بمرارة بعد فقدان السيدة وتأكدت أنه من الضروري فصل المشاعر عن مهمتي المهنية رغم صعوبة الأمر. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.