شعار قسم مدونات

بين الأبيض و الأسود.. طريق الوحوش الرمادية!

blog_الصدق

حدثني صديقي قائلا: كانت لي طفولة مختلفة، مغتربة عن كل ما هو سائد، لم أكتب على الجدران ولم أتسلق أسوار المدرسة هاربًا من حارسها ولم أركض فارا من براثن جار غاضب من دقي لجرس منزله، كان للأطفال من نفس سني ولع غرائزي بهذه السلوكيات التي أطلق عليها نيتشه تسمية غريزة الفوضى والتي على ما يبدو لم يهبني إياها الواهب الأعلى.. كنت أكتفي بدور المراقب الحكم، حكم بدون صفارة، حَكم بدون حُكم نافذ يلقي أحكامه بصندوق مغلق داخل أعماق باطنه الدفين وعادة ما يكون الحكم مقتضبا بلون الأبيض والأسود، هذا جيد وهذا سيء، الأول عادل والآخر ظالم..

كبر هذا الطفل وأصبح داخله أشد ظلمة و أكثر عزلة، توقف عن إصدار أحكامه فقد امتزج الأبيض بالأسود وأصبح رماديا مبهما ولا يمكن للأحكام العادلة أن تكون رمادية فسواد الشر يسمم بياض الخير إذا لامسه، وأنا لم أرغب في اغتيال ذلك الطفل بداخلي فأغلقت محكمته وتوقف هو بدوره عن إصدار أحكامه.

 

للحظة أدركت أنني ذلك الصامت الذي لا طريق له، فقط صمت طويل لا متناهي.. وفي الحقيقة السكوت ليس باختيار، بل هو الوقوف على عتبة الاختيار بين الصدق والنفاق

بينما يقبع ذلك الصبي في أعماقي سجينًا للأبيض والأسود صار لذوي غريزة الفوضى أطفالا على شاكلة وحوش، وحوش رمادية شبيهة بقاطني إفريقيا الوسطى من آكلي لحوم البشر ما قبل التاريخ، و لعل تلك الوحوش الغابرة أكثر رحمة فهي تقتات بعد القتل، أما هذه الوحوش المعاصرة تأكل لحمك دون الحاجة إلى قتلك.

 

لم أكد أمعن التفكير فيما قال حتى فاجأني سؤال: أيهما تختار.. الصدق أم الاحترام؟ أجبت: كلاهما قيمة ثابتة لا استقامة للعلاقات البشرية بدونهما. أردف قائلا: اختيارك للصدق يجبرك على الالتزام اللامشروط بالحقيقة دون سواها، ستضطر أن تقول للكاذب أنه كاذب وللمنافق أنه منافق وهذا سيفقدك احترام الناس لك، وأما اختيارك للاحترام سيجعل منك كاذبا لعينا لا معنى للحقيقة في حياته.. لأنك ستمدح حين يجب أن تذم وهذا ما سيفقدك احترامك لذاتك.

 

الصدق يا صاحبي له من الأسود قسوته، إنها قسوة الحقيقة، وللاحترام ما للأبيض من لين وسلم، إنه لين المراعاة لمشاعر الآخرين، إذا أقبلت على مزج كلاهما في طبعك ستخسر الاثنان معًا، سيتلاشى بداخلك ما للسواد من صدق وما للبياض من احترام، لينتهي بك المطاف سالكا طريق تلك الوحوش الرمادية.. لا أنت بأسود ولا أنت بأبيض، لا أنت بصادق ولا أنت بمحترم.. فقط وحش رمادي.. رمادي بلون النفاق.

  

علمونا صغارًا أن أقصر خط هو الخط المستقيم ولكن لا مكان لهذه القاعدة الجيومترية في العلاقات البشرية، فبني جنسي حولوا الخط المستقيم إلى أطول خط
علمونا صغارًا أن أقصر خط هو الخط المستقيم ولكن لا مكان لهذه القاعدة الجيومترية في العلاقات البشرية، فبني جنسي حولوا الخط المستقيم إلى أطول خط
 

فعلى أيهما الاختيار يا رفيقي.. الاحترام أم الصدق.. الصمت أم الكلام؟ أم أن النفاق اليوم ضرورة حياتية لا مفر منه.. للحظة أدركت أنني ذلك الصامت الذي لا طريق له، فقط صمت طويل لا متناهي.. وفي الحقيقة السكوت ليس باختيار، بل هو الوقوف على عتبة الاختيار بين الصدق والنفاق، بين طريق مستقيم وآخر ملتوي.. ورغم أن قواعد علم اللغة و الكلام تصنف الصدق كنقيض للكذب والنفاق كنقيض للإخلاص بيد أن الكذب مجرد صفة لذات منافقة وأما الصدق فهو جوهر الذات المخلصة.

 

علمونا صغارا أن أقصر خط هو الخط المستقيم ولكن لا مكان لهذه القاعدة الجيومترية في العلاقات البشرية، فبني جنسي حولوا الخط المستقيم إلى أطول خط، لأنك لو أردت أن تكون مستقيما في علاقتك بالآخرين وطهوريًا تماما وتقول ما تعتقد ستفشل تماما وسيتملأ عليك العالمون، لأنك مستقيم، لأنك مغفل إقليدي، لأنك ببساطة صادق. لهذا فإن الطريق الملتوي هو الأسهل والأنجح. هناك، لا ينبغي أن تكون إقليديا، كن جوسيا مينكوفسكيا أو حتى آينشتاينا نسبويا لكن لا تكن إقليديا.

 

الآن للأسف يوم تنحط المجتمعات و الثقافات، يوم تصبح العلائق مادية، انتهازية ومصلحية يصبح أطول طريق هو الطريق المستقيم، طريق الصدق، فتضطر أن تصير منافقا تلف وتدور مع طريقك الملتوي. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.