شعار قسم مدونات

الأحمدين والمرابط.. ثلاثية السحر

مدونات - محمود عياد

حينما ينشد الأحمدين سحر المرابط، تولد سيمفونية الإبداع الراقي من رحم الحرف، رغم أسرها تحررت، بحة خضر الأحمد في موال مطلع أنشودة "عمري الوحيد" الراقية، تجبرك قسرا على الإنصات لخامة صوته الدافئة، الهادئة، رغم صخب المعاني، فهي تأخذك لعالم أخر، ربما لم تحلم قط بزيارته، أهات بلال الأحمد وعذوبة إحساسه، تشعرك أنه يبكي الحروف، بدل أن ينشدها، تتحسس الموسيقى لوهلة، فتجد نفسك قد ارتفعت عاليا، وطيرتك النغمات دون أن تبرح مكانك، إنهم يلفظون الحرف، بوجع مع كل نفس، كأن كلا منهما عايش القصة، ويروي تفاصيلها بكل صدق، تلمسه مع كل كلمة خطها المرابط.

  
معروف عن المرابط محمود كريم عياد، الأسير الآن في سجون الاحتلال، دفء الكلمة، وعذوبة الإحساس، وعمق المعنى، وقد كان له عدة أناشيد ناجحة من بينها، ما أجملك، والتي أنشدها بلال الأحمد، وحققت نجاح عظيم. لكن الأمر مختلف، في أنشودة عمري الوحيد، لأنها تروي قصة شهيد مع زوجته. من وزع الأدوار، في الأنشودة أتقن جيدا كيف يستغل، بحة خضر الأحمد، ورقة صوت بلال الأحمد، في مطلع الأنشودة والتي يفتتحها خضر الأحمد، الذي أتقن جيدا كعادته أن يحول الحرف، إلى إحساس ناطق، يتغلغل في كل شبر من روحك، وخزات لذيذة توقظ فيك، شعور الفقد والشوق لغائب، انه ببساطة يحي فيك كل ذرة حب، كنت قد دفنتها في أعماق روحك، يجبرك بكل هدوء، على الإنصات، بدل الاستماع، كل جوارحك ستجدها تميل، وتنشد بوجع لذيذ، كأنها تعويذة سحر، لا تحدث إلا بصوت الأحمدين، وخط المرابط.

 
قصة الشهادة، والتسليم بقضاء الله وقدره، هي موضوع الأنشودة، حديث حبيبة الشهيد، عن فقدها، وحبها، ورضاها بما قدره الله عليها، كان في منتهى الدقة، والاختصار، كلمات جامعة للمعنى، دقيقة في وصفها، انه حوار الحب، بكل تفاصيله، قصة كاملة الأدوار. الشهادة، هي أن ينتقل جسده لسماء، وتبقى روحه، في وتين القلب، فيكون منها، وتكون منه لا تعلم أي الأنفاس تخرج، أي النظرات تبصر، أي النبضات تدق، لا أحد سيستشعر، ما أقوله أو ما كتبه المرابط، إن لم يحب بكل ذرة مشاعر فيه.
  

 

ليس سهلا أن تعيش، على ذكرى ميت، ليس سهلا أن تقيدك ذكرياته، فتصبح سجين حياة أخرى، جسدك هنا، وروحك هناك، تزور قبره، تروي له تفاصيل يومك، ترى صورته مرسومة، بين مآقي عيونك، تتنفسه مع كل زفير، دون أن يغادرك، انه احتلال أخر، لا يتقنه سوى الشهداء، لا احد يستطيع الجمع، بين الحزن، والفقد، والرضا، لا يمكنك تصور، أن غربة الحزن تشعرك بالفقد، وأن الفقد يسلمك لرضا، إلا إذا كان المفقود شهيدا، ذالك أن وعد الله، في الآخرة لشهداء بيعة مربحة، جنة عرضها السموات والأرض، ولقاء لا فراق بعده، لا حزن لا بكاء، وحياة أبدية.

 
أنشودة عمري الوحيد، في تقديري الشخصي، ما كانت لتنجح، لو ما اجتمع، المرابط مع صوت الأحمدين، ليس إنقاصا من الأصوات الأخرى، لكن، إنها الحقيقة، لا أحد يستطيع، إنشادها كروعة الأحمدين، ليس حتى بأحدهما، بل كلاهما، هناك كيمياء تنبعث، حينما ينشدان، تناغم وصدق خارق، لن تجده إلا عند الأحمدين. حينما سمعتها لأول مرة، أبكتني، لقد أوصلت لي بكل دقة، شعور حبيبة الشهيد، فعشت كل تفاصيل القصة، دون أن أكون طرفا فيها، رغم أني كتبت كثيرا، من القصص، والخواطر عن علاقة الشهيد بزوجته، لكن لم أشعر أني أعطيتها حق الوصف، مثلما فعلت أنشودة عمري الوحيد، أشعر أني سأكتب بدقة، وبإحساس عالي، وأنا أنصت لها، لقد باتت مرافقتي في كل كتاباتي، لأنها تفجر الصمت سحرا، وليس كلمات، تجبرك على الحديث بطريقة، سلسلة دون تفكير، لتجد نفسك أخيرا، ترجمت ما شعرت به، تحت وقع سحر الأحمدين، بكل دقة وجمال.
 

نعم يا سادة، إنها ببساطة، حروف المرابط، محمود كريم عياد، والذي أسر قبيل زواجه، فأبدع لنا حروف عمري الوحيد، لتكون تعويذة الشهادة، والتي لا يمكن تحقيقها، دون أن ترتلها حناجر، الأحمدين، أعلم أني لم أوفي صدق حروف المرابط، ولا جمال وروعة الأحمدين، ذلك أنهم أكبر من كل الحروف، لكن كان يجب أن نحاول تسليط الضوء، على هكذا إبداع مقاوم، فك الله أسرك يا مهندس الأبجدية، وأدام الله سحركما يا أصوات الجنان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.