شعار قسم مدونات

مدرسة فرانكفورت.. كيف نقدت وحشية المجتمع الغربي؟

blogs - books

عندما كتب ايمانويل كانت مقالته الطويلة التي يجيب فيها على السؤال المطروح حينها: "ماهو التنوير؟" أو "ماهي الأنوار" أشار إلى فكرة مركزية واحدة وهي "كن جريئا في استخدام عقلك" ونادى التنويريون لقرون بضرورة استخدام العقل ومحاربة الغموض في حرب الغموض والوضوح المعروفة فلم يعد للقس بعد الآن أن يقول "لا أعرف" أو "لا أعرف لماذا".

 

بعد صراع طويل مع الخرافة والجهل سطع نور الحضارة في أوروبا وظهرت العلوم ونجحنا أخيرا في انتاج المجتمع المتنور المنطقي في طريقة تفكيره بعيداً عن أي وصاية من أي نوع، مجتمع حيث يحترم الإنسان أخاه الإنسان بغض النظر عن لونه أو عرقة أو دينه، وبعد قرون من التنوير صعد هتلر المنصة ونادى بأن الجنس الآري هو خير شعوب الأرض وأنه "شعب الطبيعة المختار"، نادى بذلك أمام تلامذة هيجل ونيتشيه وأمام من قرؤوا لفولتير وبيكون وديدروا، فانتخب الألمان النازية وعاشت أوروبا والعالم الويلات نتيجة اقتناع شعوبنا المشبعة بنور العلم والمنطق بالخطابات الشمولية البربرية الهمجية التي طننا أن صفحتها طويت يوم قمنا بشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس!.

 

وغير بعيد من ألمانيا حيث كان جان جاك روسو ينادي بالمساواة وحيث رفض پول سارتر نوپل الأدب إخلاصاً لأفكاره الداعية للعدل وإنصاف المضطهدين، من هنالك عبرت جيوش فرنسا البحر المتوسط لتذيق شعوب افريقيا صروف العذاب ويقتل ملايين الأفارقة لا لذنب سوى أنهم لم يكونوا متنويرين بالقدر الكافي.

 

حساسيتنا المفرطة لكل نقد تمنع أي تحديث قد يحدث عندنا ولولا نقد فلاسفة فرانكفورت وغيرهم للحداثة لذابت المجتمعات الغربية في المادية المطلقة ووصلت نقطة اللاعودة

ومن المملكة العظمى حيث نادى ديكارت بالمنطقية وأعلن دافيد هيوم نهاية عصر الخرافة والميتافيزيقيا لصالح عصر الإنسان والإنسان وحده، من هنالك عبرت جيوش التنوير الأطلسي وبنت الحضارة في أرض الميعاد الجديدة على أنقاض عشرات الملايين من الهنود الحمر وزرعت حقول القمح وسقتها بعرق ملايين الأفارقة الذين جلبوا من مستعمرات المملكة العظمى في أدغال افريقيا حيث يوجد الإنسان البدائي الذي كان ذنبه الوحيد هو الآخر أنه لم يرى الحضارة قط.

 

وفي عمق المجتمع الغربي نفسه لم يعد الإنسان مجبراً على تأدية القداس بشكل منتظم فقد فتح لنا مارتن لوثر باب مخاطبة السماء مباشرة وأصبح التدين سائلاً بتعبير پاومان ولم تعد ثمة قيود ولا بيروقراطية تعيسة، كل ذلك من أجل أن تكون علاقتنا بالخالق صافية نقية لا تشوبها شائبة خالية من نفاق المجتمع وصكوك غفران الكنيسة، فكان من المفترض أن يخرج المتدين الحداثي المتصالح مع ذاته ومع تراثه، لكن خرج لنا الإنسان ذو البعد الواحد على حد تعبير ماركوز، إنسان أقصى أمانيه أن يضيف صفراً آخر في الجانب الأيمن من رقم رصيده البنكي، إنسان ينتحر لسقوط سهم شركة في وول ستريت أو يقتل عشرات الطلاب لأنه كان شعر بالملل أو ينهي حياته لأنه ببساطة لم يجد لها معنى رغم امتلاكه منزلا وسيارة وراتبا مريحا!!

 

على هاتين الفكرتين الأساسيتين ( الإنسان ذو البعد الواحد ووحشية ولاإنسانية الأنظمة الغربية التي كان من المفترض أنها حداثية) عليهما بنيت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت فكان نقدها موجها ً للحداثة وما صاحبها من اغتراب وتشيء وشمولية في الفكر الحداثي نفسه، و قد أبدع أدورنو وهوريكايمر وهابرماس وماركوز وغيرهم في تشخيص وتحليل هذه الظواهر ومحاولة طرح حلول لها.

 

و حتى لا نفهم الموضوع بشكل مغلوط ليس الهدف هنا أن نصفق كما نفعل كلما قرأنا -إن قُدّر لنا أن نقرأ- أو كلما سمعنا بنقد لكل ماهو غربي نصفق بجنون لمجرد أن هذا النقد ينسينا ولو لحظات شعورنا العميق بالنقص والتخلف، فالهدف هنا ليس التشفي في الإنسان الغربي أو مصير القارة العجوز بل أن نعرف أولاً قيمة النقد فحساسيتنا المفرطة لكل نقد تمنع أي تحديث قد يحدث عندنا ولولا نقد فلاسفة فرانكفورت وغيرهم للحداثة لذابت المجتمعات الغربية في المادية المطلقة ووصلت نقطة اللاعودة.

 

ثانيا أنه في زمن العولمة أو "الأمركة" تنتقل مشاكل المجتمع الغربي خاصة، تنتقل بشكل جنوني إلى كل مدينة وكل بيت فليس غريباً أن ترى ابنك غدا يفكر بمنطق الإنسان ذي البعد الواحد ويقطع شعرة معاوية -كما يقال- بينه وبين كل ماهو روحاني وتراه مع الوقت يذوب في مفاهيم مغلوطة كان من الممكن أن يتفاداها، وليس غريبا أن ترى علمانيا متأخراً يدعو للقضاء على القيم الدينية والأخلاقية غير مدرك لتبيعات ذلك.

 

نقطة أخيرة نستفيدها من المدرسة وهي أننا حين ندعوا للتحديث أو التنوير يجب أن نكون مدركين بوعي تام أن ثمة قيما ومفاهيم إذا خسرتها المجتمعات فمن الصعب جداً إعادة بنائها، وأن دور العجزة والحضانة مثلاً ليست من التقدم في شيء بل أوكار تعاسة أنتجها العقل الأداتي الغربي في أكثر صوره تطرفا ومادية، وطبعاً أن بناء حضارة كالتي نراها شمال البحر لا يعني بالضرورة أننا يجب أن نكرر نفس الأخطاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.