شعار قسم مدونات

الأوطان بين النشأة والترسيخ.. حِبرٌ على رمل (2)

blogs - تقسيم الأوطان

بين إنكار الواقع والدفاع عنه، كلٌ منا قد مرَّ بحالة رفض لواقع ما بحياته، أو ربما استنكار لشيء معين، لكن لا أعلم من منكم جرَّب أن يتحول من مقام الرافض للشيء، إلى مقام المدافع عن ذات الشيء الذي رفضه في وقت معين. أنا حقًا لا أعلم من منكم جرب هذا التناقض العجيب في حياته، لكن ما أعلمه يقينًا وتعلموه، أن غالبية المسلمين في هذا العالم يعيشون هذه الحياة في تناقض عجيب بين رفضهم لواقع الأمة الإسلامية الذي تعيشه؛ من تشتت وانقسام وتفرق، وبين إخلاصهم لحدود ما يسمى أوطان، أو دول العالم الإسلامي، مع العلم أن أكبر هذه الدول والأوطان عمرًا لا يزيد عمره عن قرنٍ من الزمن.

أوطان ودول لم يكُن إرادة لهؤلاء المتناقضين في نشأتها، بل كما قلنا هم رافضين لهذا الواقع، ولا يعترفون قلبيًا بهذه التقسيمات (تقسيمات سايكس بيكو)، ولكنهم بذات الوقت مخلصون لها، ويشعرون بالانتماء إليها. بالحقيقة لم يأتِ هذا التناقض من فراغ، بل هو نتاج جهد من أصحاب المشروع الأصليين، أصحاب مشروع سايكس بيكو، الأوصياء على تركة الرجل المريض. ليس التناقض بذاته هو الذي نتج عن جهد الغرب، إنما ذلك الشعور بالانتماء لحظائر سايكس بيكو، والناتج عن الحصيلة الفكرية عند المسلمين من الغزو الفكري من قبل الغرب. أما هذا التناقض فيأتي من وجود العقيدة الإسلامية عند المسلمين، والتي تُذيب كل هذه الحدود، وتجعل المسلم يرفض واقع التقسيم والانفصال بين شعوب الأمة الإسلامية. إذًا الإنسان المسلم يعيش في واقعٍ ينكره (من جهة العقيدة والمشاعر)، ويدافع عنه (نتيجة لتلوث أفكاره وعواطفه بأفكار وعواطف كاذبة).

حدود سايكس بيكو.. حبرٌ على رمل، لنكمل سردنا

بدأ الأمر بالغزوات الصليبية التي استمرت حوالي قرنين من الزمن، تراوحت بين كرٍّ وفرٍّ، وبين انتصارٍ وهزيمة، وكانت انطلاقة هذه الحروب تجاه العالم الإسلامي بالأصل؛ قائمة على أساس ديني وبدعوى من البابا أوربان الثاني

ختمنا الجزء الأول من المقالة بأن دول الغرب، وبالرغم مما كان بينهم من خلاف سياسي، لم يمنعهم خلافهم من توحيد جهودهم في محاربة دولة المسلمين، لأنها كانت خطرًا محدقًا يحيط بكل قومياتهم وعروشهم، ذلك أن هذه العقيدة تصهر كل من يعتنقها فيصبح انتماؤه للعقيدة لا لشيءٍ آخر، وهذا ما كان يهدد عروش ملوك أوروبا، فوصول الإسلام إلى أوروبا بالفتح يعني إنهاء أنظمتهم وإقامة نظام الإسلام. ولأجل ذلك ومن أجل وقف تمدد دولة المسلمين توحدت جهودهم، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل هدمها.

بدأ الأمر بالغزوات الصليبية التي استمرت حوالي قرنين من الزمن، تراوحت بين كرٍّ وفرٍّ، وبين انتصارٍ وهزيمة، وكانت انطلاقة هذه الحروب تجاه العالم الإسلامي بالأصل؛ قائمة على أساس ديني وبدعوى من البابا أوربان الثاني، تلبيةً لطلب البيزنطيين تحت وقع الهزائم التي لحقتهم من السلاجقة الذين بدأوا التوسع باتجاه الأناضول. وكان البابا يتدرع في دعوته بتطبيق "إرادة الرب" عن طريق الحج إلى الأرض المقدسة للتكفير عن الخطايا، وكان يستجدي عواطف مسيحيي أوروبا بالحديث اضطهاد الحكم الإسلامي للمسيحيين في الأرض المقدسة ويدعو إلى تحريرهم. على كل حال لسنا هنا بصدد التوثيق التاريخي، وإنما هي سردة تاريخية بالقليل القليل من التفاصيل، بما يساعد على تكوين الصورة التي ننوي الوصول إليها.

مع أفول نجم دويلات العالم الإسلامي، من مماليك وأيوبيين وفاطميين وغيرها من دويلات وممالك، بدأ نجم الدولة العثمانية يتصاعد في شمال شرق العالم الإسلامي، وتحديدًا في الأناضول، وسرعان ما بدأت الدولة العثمانية بضم دويلات العالم الإسلامي، ثم انتقلت الخلافة إلى البيت العثماني وبايعت الأمة السلطان العثماني، وبذلك أصبحت الدولة العثمانية هي دولة الخلافة الإسلامية. في هذه الفترة تحول الغزو الغربي للعالم الإسلامي إلى حروب متواصلة مع الدولة العثمانية، واستمرت هذه الحروب منذ قيام الدولة العثمانية، حتى لمعان نجمها وسطوعه كحروب مواجهة ي وجه الفتح الإسلامي لأوروبا. ومع بداية ضعف الدولة العثمانية تحولت الحروب إلى حروب احتلال لأراضي الدولة العثمانية، واضطهاد وتهجير للمسلمين.

اكتسب الغرب خبرة كبيرة في مواجهة المسلمين، من الناحية العسكرية ومن الناحية الفكرية، وأصبح يعرف جيدًا ما هي نقاط ضعف المسلمين وما هي نقاط قوتهم
اكتسب الغرب خبرة كبيرة في مواجهة المسلمين، من الناحية العسكرية ومن الناحية الفكرية، وأصبح يعرف جيدًا ما هي نقاط ضعف المسلمين وما هي نقاط قوتهم

برغم تآكل بعض أطراف الدولة وتقلصها إلا أنها بقيت رغم كل ذلك تهديدًا حقيقيًا للغرب، وذلك لما يحمله المسلمون من مبدأ حي قادر في أي وقت على تحريك المسلمين. اكتسب الغرب خبرة كبيرة في مواجهة المسلمين، من الناحية العسكرية ومن الناحية الفكرية، وأصبح يعرف جيدًا ما هي نقاط ضعف المسلمين وما هي نقاط قوتهم، وكيف يمكن التغلب على نقاط القوة، والاستفادة من نقاط الضعف. وبنفس الوقت كانت قد بدأت النهضة الصناعية في أوروبا بعد أن أرسى النظام الرأسمالي قواعده، وانتهت مرحلة الانحطاط الفكري في الغرب، وانتقل لنهضة فكرية شاملة.

فانتقل الغرب في حروبه مع المسلمين لمرحلة جديدة، وهي مرحلة العمل على ضرب المبدأ الذي يحمله المسلمون، فعمد الغرب إلى هذه الناحية وبدأوا مرحلة التلويث الفكري للمسلمين من خلال مستشرقيهم، ومن خلال المفتونين بهم من المسلمين الذين ذهبوا للتحصيل العلمي في أوروبا، وبدأت تتسرب الأفكار القومية والوطنية لعقول المسلمين، ومن الإنصاف القول أنه كان هناك ضعف في الناحية الفكرية في الدولة العثمانية بسبب إهمال اللغة العربية، وبالتالي تراجُع الاجتهاد وجموده، ما أنتج فراغ فكري بين المسلمين، وهذا ما أدى إلى أن لاقت الأفكار الجديدة عقولًا تحملها وتنشرها. كان الغرب يترقب ويدرس حالة الانتقال الفكري عند المسلمين، بالتزامن مع العمل العسكري على الأرض، وأكله لأطراف الدولة، مدينة فمدينة، وولاية فولاية، بل واقتُطِعَت أقاليم كاملةً.

فبدأ الضعف يشل أطراف الدولة من الناحيتين؛ العسكرية والفكرية، وبوجود العملاء الذين رباهم الغرب بأعين ساهرة، وبالاستفادة من المسلمين الذين حملوا الأفكار القومية والوطنية والرأسمالية وكل ذلك الخليط، قامت الثورات ضد الدولة من داخلها، وتم تفكيك الدولة وإنهاء الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك وحزبه. وبدأت مرحلة الوصاية على تركة الرجل المريض من قبل الأوربيين. ليس أمرًا مفاجئًا أن يجد المسلمون أنفسهم بعد ذلك بلا قيادة، بعد أن عاشوا ثلاثة عشر قرنًا في كنف نظام الإسلام، بل أكثر من ذلك أصبحت بلادهم مُقطَّعة الأوصال، وكل قطعة منها عليها وصي، من انكليز وفرنسيين وطليان وبرتغاليين وإسبان. نعم ليس أمرًا مفاجئًا، بل هذه نتيجة التحول الفكري بين الغرب والمسلمين، ففي الوقت نفسه كان الغرب ينهض فكريًا (ولو انه نهض على أفكار خاطئة بالقياس الإسلامي)، وكان المسلمون يتراجعون وينحطون فكريًا حتى ضيعوا دولتهم. غياب القيادة الواحدة للمسلمين يعني غياب سلطانهم، وبالتالي الخضوع لسلطان غير المسلمين. ومن مسلمات عقيدة المسلم عدم الخنوع والخضوع للظلم، والسعي لرفع الظلم والدفاع عن الإسلام وأرض الإسلام، بل ذلك يُعتبر عبادة ورأس سنام الإسلام.

خاض المسلمون حروب وثورات طاحنة ضد الأوصياء المحتلون، لكن طبيعة هذه الحروب والثورات أنَّها كانت ضد المحتل في كل منطقة على حدا، فبلاد الشام كانت مقسمة بين فرنسا وبريطانيا، فثار من وقع تحت احتلال فرنسا على فرنسا، وثار من وقع تحت احتلال بريطانيا على بريطانيا، ولما أُعطي للشعوب في هذه المناطق ما سمي بالاستقلال؛ أُعطي الاستقلال لكل منطقة على حدا، وهذا كان أول تأسيس ونشأة للأوطان الجديدة للمسلمين. لقد حصل المسلمون على وهم الاستقلال الذي دفعوا ثمنه من دماء أبنائهم ليجدوا أنفسهم يعيشون في سايكس بيكو عين اليقين، حبرٌ على رمل، لا حبرٌ على ورق. ومع ذلك، ومع معرفتهم وعلمهم ان الأصل في انتمائهم للعقيدة لا للأوطان، إلا أن الضعف والانحطاط الفكري حال دون تحركهم للعودة لحياتهم الطبيعية.  وبدل أن تعمل قيادات الدول الناشئة على الاستمرار في الجهاد لتحرير كل شبر من أراضي المسلمين وإعادة سلطان المسلمين، عملت على النقيض الآخر، فهي رسخت الوطنية، والانتماء للوطن، وحاولت إيجاد البديل لانتماء المسلمين بما يُحَرِّك عواطفهم من شعارات رنانة. وما زال المسلم مخلصًا لحضيرته، يتقاسم قلبه انتماءان.. إلى العقيدة، وإلى الوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.