شعار قسم مدونات

كتاب الدولة المستحيلة.. نظرة نقدية لطرح استشراقي (2)

BLOGS الدولة المستحيلة

إنه لمن الطبيعي أن يفرض الغرب أسلوبه وفكره ومنهجه ويسعى إلى نشره وإبراز مفاتنه وإخفاء عيوبه ولعله من البديهي أيضا أن ندرك أن الدول التي أنشأها الاستعمار أو كان سببا في وجودها هي مجرد امتداد مسخ له ولحضارته فهو قد أنشأ دولا أي مؤسسات من قضاء وتعليم ومؤسسات عسكرية ووسط سياسي ويذكر الكاتب ذلك "كما أنّ النخب القومية في الدول العربية حافظت على السياسة الاستعمارية المستبدّة ذاتها"، ولكن كل هذا ضمن سياقه الحضاري الذي تم فرضه بالحديد والنار لأن المجتمع الذي طبق عليه النموذج يحمل مفاهيم وقناعات مختلفة مما جعله في تصادم دائم وانعدام للانسجام.

 

وبقي التصادم قائما ومن أوجهه:

أولا: إيجاد مناخ فكري مليء بالتشوهات يحاول إيجاد عقلية لا ترى إلا بمنظار ما يراه الغرب واعتبر ذلك هو المنهج العلمي الصحيح والموضوعي.

ثانيا: تلويث أفكار الناس فيما يتعلق بالإسلام ونظام حكمه وكانت الانطلاقة بكتاب علي عبد الرازق الذي يفتقر التأصيل العلمي ويدل على عدم استقراء للمادة العلمية وجهل مطبق بها هذا فضلا عما تدور حوله من الشبهات من أن كاتبه هو اليهودي مارجيلوث ومدققه اللغوي طه حسين وما علي عبد الرازق إلا عميل فكري.

ومن أجل استمرار عملية التلويث فقد تم تغيير مناهج الأزهر والزيتونة من خلال الإصلاحات التي سعت إلى تغييب تام للنظام السياسي في الإسلام واعتباره مجرد خطوط عريضة وقواعد إنسانية عامة وبهذا تفقد كنهها وتميزها. ويمكننا إدراك قلة المتاع الفكري والفقهي لدى الكاتب "وائل حلاق" فيما يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي بشكل واضح وجلي عند تطرقه للنموذج الحكم الإسلامي فهو بداية يحاول إبعاد ذهن القارئ عن مصطلح الخلافة واستبداله بالحكم الإسلامي واعتبار أن الإسلام لم ينتج دولة بالمفهوم الحديث "ولأنها تحتوي مدلولًا يشير إلى أنّ الوحدات الإسلامية الناظمة للسياسي والاجتماعي لم تكن متداخلة بصورة وثيقة في إطار منتظم" وهذا وإن يدل على محاولة لإعطاء تفسيرات غير منطقية لوقائع تاريخية وتشريعية غير مبررة.

 

ما ذكره الكاتب من إفلاس وحياد هو في حقيقته أصل من أصول النموذج الغربي الذي لم يحد عليه وإنما ازداد شراسة ونهما وتسبب في كوارث بشرية وطبيعية

ومما يستدل به كذلك هو قوله أن الحاكم في الفكر الإسلامي هو مستأجر "يمكننا توصيف السلطة التنفيذية في الحكم الإسلامي بأنها طبقة مستأجرة ملتزمة بتأدية وظائف معينة، تحافظ على تطبيق الشريعة التي قّننها الفقهاء بالنيابة عن الأمّة، وتخضع لنظامها لقاء إيجار تفرضه على الناس" وهذا منطق رأسمالي بعيد كل البعد عن الفقه السياسي الذي اعتبر أن الحاكم في الإسلام هو شخص يخلف الأمة في تطبيق ما أمروا به ويتم تعينه وفق نظام محدد يسمى بالبيعة ويستمد شرعيته أي الحاكم من كونه ممثلا للأمة والتي وجب عليها طاعته ما دام أنه قائم على حدود الله.

فالسلطان للأمة هي التي تعين الحاكم الذي يرتبط بعقد معها وإن أخل ببنود العقد فإن للأمة الصلاحية في خلعه. وفي سياق أخر فإن الكاتب وصف نظام الحكم الإسلامي بأنه قاصر عن إيجاد ما يطلق عليه البيروقراطية أو بمصطلح أخر الأجهزة الإدارية ومرة أخرى يقع في فخ جهله الذي هو غير معذور به خاصة وأنه أراد إضفاء الصفة الأكاديمية على كتابه وعمل على حشوه بكثير من كلام الفلاسفة الغربيين ونظرياتهم. وبهذا يتضح أن المؤلف لم يعتمد على الأسلوب العلمي الدقيق في تناوله للموضوع الرئيسي وبهذا فإن نقاش تفاصيل ما بني عليه غير نافع.

أما انتقاده للحضارة الغربية والحداثة في ثوبها الحالي فهو لم يأتي بجديد فقد سبقه الكثير من الكتاب الغربيين من أمثال جان زيغلر في كتابه "سادة العالم الجدد" ونعوم شموسكي "من يحكم العالم" ومايلز كوبلاند "لعبة الأمم" والكثير الكثير.. فالغاية التي أرادها الكاتب من تناوله لإفلاس النموذج الغربي هو من أجل إبراز أنه كاتب حيادي ينتقد الطرفين ويحاول الأخذ بأفضل ما فيهما ولكنه يغلب النموذج الغربي باعتباره القائم والأكثر واقعية على خلاف النموذج الإسلامي الذي يفتقد لمفهوم الدولة الحديثة وتشوبه الكثير من المثالية ولكن يمكن الاستفادة منه في تقويم ما أفسده الدهر.

إن الإشكالية في المنهج الغربي هي قاعدته الفكرية والتي انبثقت عنها معالجاته التي تسير الحياة فهي قاعدة أعطت للعقل المتقلب صلاحية التشريع وخالفت بذلك فطرته التي تقر بعجزه وأنه مجرد مخلوق لخالق مدبر حكيم ولعل عدم إدراكه لهذه الحقيقة هو أنه شخص مسيحي.

 undefined

إن متلازمة القتل والفقر والفساد بالنسبة للدولة الحديثة أمر لا يمكن الانفكاك منه وهو أمر غير مخفي على كل مطلع على التاريخ الإجرامي للثورة الفرنسية والجرائم الوحشية التي مارسها المستعمرون الأوروبيون اتجاه الهنود الحمر والحروب التي قامت بها بريطانيا على الصين فيما يسمى بحروب الأفيون وحرب العراق وأفغانستان وهيروشيما وغيرها الكثير.

 

فما ذكره الكاتب من إفلاس وحياد هو في حقيقته أصل من أصول النموذج الغربي الذي لم يحد عليه وإنما ازداد شراسة ونهما وتسبب في كوارث بشرية وطبيعية وحتى التكنولوجيا التي يتغنى بها فهي ممنوعة على الأمم الفقيرة لتبقى على ما عليه من الاستعباد والنهش.. إذن الغرب لم يحد وإنما استمر فيما كان عليه وإن زينه ببعض البهرجة الإعلامية والفكرية هنا وهناك.

وأخيرا فإن الكتاب لم يقدم طرحا علميا كما يدعيه وعدم تمكنه من المادة العلمية غير مخفي على كل ذي بصيرة وإما تمسكه بقشة نقد النموذج الغربي فهي حيلة لن تنطوي على من أدرك ألاعيب مفكري الغرب ومستشرقيه ووجب على الأمة إدراك خطط أعدائها وأساليبهم التي لن تتوقف مصداقا لقوله تعالى "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ". إن على الأمة ومثقفيها المخلصين هو السعي الحثيث لإعادة الثقة بإحكام الإسلام ومعالجاته وأن التنازل عن أي جزئية تعتبر بداية للانهزام الذي يتلوه غضب رباني قال تعالى "وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.