شعار قسم مدونات

ذهب الإنجليز.. وبقي حنين السودانيين لهم

مدونات - السودان أيام الاستعمار قديما
الحنين إلى الماضي وسيلة تلجأ إليها الشعوب للهروب من سوء واقعها وضغوط الحياة وصعوباتها الي زمن جميل وارف الظلال مضى وانقضى، وهي تعبير عن الضيق المتواتر ببؤس الحاضر وشظف العيش فيه مقارنة بالماضي وربما لفقدان الأمل في مستقبل أفضل، والشعب السوداني ليس استثناء بالطبع. فقد رمى أغلبية السودانيين أنفسهم في أحضان الماضي، وحقبة ما قبل الاستقلال حيث الإنجليز لاعتقادهم بأن تلك الحقبة كانت أفضل مما هي عليه الآن، لا نستطيع الجزم بنصاعة الماضي لأنه كمرحلة تاريخية من مراحل تطور المجتمع السوداني شابته بعض السلبيات التي ساهم المستعمر فيها بالمقابل لا نستطيع بأن نعمم الحاضر كله سيء فهناك بعض الإشراقات.
   
وحنين السودانيين إلى تلك الحقبة عبارة عن مسلمات قديمة رائجة عن الاستعمار البريطاني، وعن علاقة المستعمر بالمستعمرين والإنجليز بالسودانيين الذين عملوا معهم وعاشوا بينهم. ولا يكاد يمر يوم نجلس فيه مع أهلنا أو من مخضرمين هذه الحقبة الاستعمارية إلا ذكروا فيه الماضي الجميل كما يسمونه، وعندما كانت "الدنيا بخير" بل أحيانا يظهرون تحسرهم على فوات تلك الأيام بقولهم بدارجية قحة "حليل أيام زمان" وكل تلك الكلمات تجمل لنا الماضي وتجعله في أذن السامع زمنا مثاليا.
  
الحنين إلى الماضي حالة عاطفية تحدث في لحظة شعور بالعجز والانكفاء على ذلك الماضي يبدد فاعلية الإنسان، لذا يجب غربلة الماضي والاستفادة من أفضل ما فيه

تحدثوا لنا أيضا عن مظاهر الثقافة والمعاصرة التي تجلت في كل مكان في الخرطوم آنذاك، حيث المكتبات ودور السينما ومنتديات الأدب. قالوا لنا كانت الدنيا بالأبيض والأسود ولكن تلونها الطمأنينة في كل شيء، أخبرونا أيضا عن جمال لم يعد موجودا، صور الشوارع نظيفة وخالية من الزحمة، عن سلوك راق كان سائدا آنذاك عن فترة الخمسينات من القرن الماضي لأنها كما قالوا كانت أرقى الفترات في السودان، سواء في المباني أو الأزياء وكان الناس يتحلون بالأخلاق. أتساءل هل هم متعايشون مع الواقع أم أنهم بإخبارهم لنا بكل ما سبق يحاولون تعريفنا بالرقي الذي كان سائدا في الماضي -حد قولهم- وعسى ينعكس ذلك على سلوكنا؟؟

 
نعود ونقول مرد ذلك نحسبه للتدهور السريع في جميع مناحي الحياة داخل المجتمع السوداني حيث أن الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال ديمقراطية كانت أم عسكرية لم يشغل اهتمامها بناء وتطوير الدولة السودانية الحديثة ومؤسساتها بقدر ما عملت على تدعيم نفوذها بجانب تمكين المستفيدين منها وإصدار العديد من القرارات والإجراءات التدميرية المقصودة للقطاعات الإنتاجية في الدولة ومنع الأنشطة الثقافية ودور السينما، ونتيجة لكل ما سبق كان اضمحلال الحياة الفكرية الثقافية كما تدهور المنتوج الفني والإبداعي وانعكس ذلك سلبا على المخزون المعرفي والثقافي والوجداني للفرد. كذلك أججت حالة "النوستالجيا" هذه عملية جلد الذات لدى السودانيين.
 
الحنين إلى الماضي حالة عاطفية تحدث في لحظة شعور بالعجز والانكفاء على ذلك الماضي يبدد فاعلية الإنسان، لذا يجب غربلة الماضي والاستفادة من أفضل ما فيه والمواءمة بين ما نأخذه منه وبين التغيرات التي حدثت في الحاضر. كما يجب علينا قراءة الماضي قراءة علمية بدلا من الهروب إليه وأن نفكر في المستقبل. نحن نرث من آبائنا إيجابيات كثيرة ولكننا نرث أيضا أخطاء وسلبيات لن نخوض في تفاصيلها لأنه كما يقول المثل الإنجليزي "الشيطان يدخل في التفاصيل".
  
undefined
 
والاستعمار كما نظر إليه الطيب صالح كجزء من التاريخ وجزء من الذاكرة التاريخية التي شكلت وعي المجتمع السوداني بعد الاستعمار إذ يقول: "لم يكن مجيئهم مأساة كما نصور نحن ولا نعمة كما يصورون هم، كان عملا ميلو دراميا سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة"، إذا ما الشي الذي يدعوا للحنين؟ الاستعمار قد حدث وانتهى ولم يعد ممكنا العودة بالزمن إلى الوراء ولا الحديث عن ما تركوا من المستشفيات والمدارس واللغة والسكك الحديد والمصانع. فقد دمرت كل هذه المكتسبات بفعل فاعل، ولكن يمكنني الحديث عن اعتزاز غالبية الشعب بما بقي من مكتسبات وموروثات التي لم تنل حظها من الخراب بعد أو التي لا زالت تعمل كالجسور والمباني والطرق بقولهم "هذه من أيام وصنع الإنجليز".. كل ذلك جعل معظم السودانيين يتحسرون بحرقة على "أيام الإنجليز" حيث كل شيء ذي جودة. 
  
كل ما سبق يصوره لنا الروائي الطيب صالح حيث يصور "دراما الاستعمار التي خلقها لا تحرض على الحرب، ولكن فقط تبعث على الحزن" والحق إن وطن ما بعد الاستعمار جعل أغلبية السودانيين يقضون السنين أسفا وتحسرا على ما آل إليه وطنهم لكن ذلك حدث كرهنا أم أحببنا.. وهو ما ينطبق وقول المتنبي:
خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا.. فارقت شيبي موجع القلب باكيا 
   
والنوستالجيا في الحالة السودانية تساعد في الحفاظ على "الشخير العام" بل واستقلاله من قبل الحكومات لإحكام قبضتها. إنني لا أدعوا إلى القطيعة مع الماضي وبما يمثله من تاريخ، وتراث، وغيره.. ولكن إلى الاستفادة من المشرق من هذا الماضي.. لأن الحنين إلى الماضي وحده وإغماض العين عن الحاضر استرخاص للحياة وليس هذا بطريقة مثالية يتم بها مواجهة سوء وعسف الحاضر، بل يجب تغير الأوضاع الحالية والسعي لتغير الواقع.
   
لا تحدثوا أبناءكم عن الماضي الجميل كما على حد زعمكم، حتى لا يصيبهم اليأس ببؤس الحاضر، لا تنشروا الطاقة السلبية وتبثوا سمومها بينهم.. لا ننكر أيضا أن الواقع كذلك يثبت أن هنالك نماذج مشرقة من الشباب السوداني تبعث الأمل في أن الغد رغم مرارة الحاضر سيكون مشرقا، وأضعف الإيمان أن نشجع تلك الإشراقات ونحتفي بها، كذلك التوازن مطلوب بين جلد الذات واغتيالها وإيقاد شمعة تبث الأمل في أن الغد أجمل من الحاضر المر بدلا من أن نتوارث معايير للنجاح لا نستطيع وضعها على أرض الواقع ونرفض كل ما خرج على هذه المعايير وننتظر أن يتوقف الزمن لنرجع كل ما نتج من خارجها ونضبطه بها ثم نتركه ينطلق في الحياة وكأن الحياة تنتظرنا وكأن الوقت به خاصية الإعادة. ربما لو تجرأ واحد من الأجيال القديمة وانتقد هذه المعايير الجيدة لكان غير واقعية لتقبلنا واقعنا ولانطلقنا بنجاحنا البسيط لنجاحات أكبر بعيدا عن الحنين أو (النوستالجيا)، لكن للأسف لا أحد من أجيالكم يقبل ذلك، فإما أن نكون إنجليز وإما أن نكون سودانيين فشلة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.