شعار قسم مدونات

القومية الصهيونية.. قصة العنصرية من البداية

مدونات - اليهود

كلما وليّت وجهي صوب فلسطين المحتلة، تألمت لتقدم الصهاينة وتطور دولتهم المزعومة أكثر من تألمي لاغتصاب أرض العرب وفقدانها.. غريب حقا لمن لم يعرف أسرار التاريخ أن تتحول «دولة» حديثة كانت تعد في بدايات تأسيسها مئات الألاف من اليهود إلى إحدى أقوى الدول في عالمنا على شتى الأصعدة.. إن الفضل في هذا يعود بالأساس إلى الصهيونية وهي حركة عنصرية متشددة قامت على أسس عرقية وقومية لا علاقة لها بالديانة اليهودية في جوهرها، انتقدت هذه الحركة في أوائل نشأتها من قبل رجال الدين اليهود ورفضوا حتى التعاون معها.

  
لقد ارتبطت الصهيونية باسم ثيودور هرتزل الذي لم يكن متدينا يهوديا كما يعتقد الكثيرين بل كل ما كان يحلم به وطنا قويا يجمع اليهود، ولم تكن عينا هرتزل في البداية موجهة نحو فلسطين بل إن تفكيره كان ينصب على تأسيس دولته في الأرجنتين أو في إحدى الدول الإفريقية لكن تأويلات بعض رفاقه لإحدى النصوص المقدسة عند اليهود والتي مفادها أن الله سيهب لبني إسرائيل الأرض من وادي العريش في مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات دفعته إلى تغيير رأيه حتى صارت الوجهة فلسطين، فالدين هنا كان عامل استقطاب ليس أكثر، عامل إقناع لليهود المشتتين في كل مكان من العالم.

  

الحركة الصهيونية هي أحد أبرز الحركات العنصرية في التاريخ، عنصرية كانت قمينة ببناء دولة قوية تهدد العرب وتسعى إلى استئصالهم من أجل تحقيق حلم دولة أكبر هي دولة إسرائيل العظمى

وتلا كل هذا فيما بعد وعد بلفور المؤرخ في 2 نوفمبر 1917 الذي مهد الطريق نحو الهجرة إلى فلسطين ولو أن بريطانيا تراجعت عنه فيما بعد وقد خلف ذلك احتقانا كبيرا لدى الصهاينة دفعهم حتى إلى مقاومة جنود المستعمر البريطاني وهذا ما تكشفه بالتفصيل غولدامائيير رئيسة الوزارء الإسرائلية السابقة وإحدى قادة الحركة الصهيونية في مذكراتها. غير أن ما يعنيني ليس سرد أحداث تاريخية بوسع كل الباحثين الولوج إليها بقدر التركيز على السياسة الصهيونية والتي تبدو من خلال قراءتي أنها سياسة عنصرية إلى أقصى الحدود ساهمت في إرساء معالم مجتمع متقدم متعلم، فالصهاينة ما كانوا مهتمين بدماء اليهود التي كانت تسفكها جيوش الرايخ بل كان همهم بعث الحياة في مشروع دولتهم متخذين من كل تلك الدماء مطية للوصول إلى الغاية المرجوة، بل إنهم ساهموا في سفكها من خلال علاقة الصهيونية الجيدة بأدولف هتلر.

  

 فعلى عكس التصور السائد، لم يكن زعيم ألمانيا عدوا للصهاينة أي الحركة الصهيوني بل كان مقربا منها ومقربة منه، وهذا ما رجحه المفكر الفرنسي روجيه غارودي في بحثه حول الأساطير المؤسسة للسياسة اليهودية، أما اليهود الذين كانوا ضحايا له فهم أولئك الذين اندمجوا في المجتمع الألماني وكانوا يرفضون فكرة الهجرة التي تنادي بها الحركة الصهيونية، فرفضتهم عنصرية هتلر وأهملتهم عنصرية الصهاينة وإني استحضر مضمون مقولة لبن غريون أول رئيس وزراء إسرائيلي وصاحب إحدى الجمعيات الصهيونية الناشطة في أوروبا قبل تأسيس إسرائيل مفادها أنه يفضل أن "يعيش نصف الأطفال اليهود وأن يرحلوا إلى إسرائيل على أن يعيشوا كلهم وأن يوطنوا في بريطانيا"، إذن من الواضح أن هتلر كان يسدي خدمة العصر إلى الصهاينة الذين تمنوا بدورهم نصره في الحرب العالمية الثانية، ودليلي على هذا ما يروى عن سعيهم إلى التغرير بأمريكا من أجل إعطاء الألمان آليات عسكرية مقابل إنقاذ مليون يهودي من الحصار والقتل بشرط أن توظف تلك الأسلحة ضد الاتحاد السوفياتي، ولكن أمريكا رفضت الطلب الصهيوني آنذاك وأبلغت السوفيات بمضمونه لأن الأمريكان تفطنوا إلى أن المراد ليس إنقاذ اليهود وإنما هزم الاتحاد السوفياتي واسقاطه على يد الألمان.

  undefined

  

إضافة إلى هذا، يؤكد التاريخ أن الحركة الصهيونية لم تصف العرب فحسب بل صفت كذلك اليهود أنفسهم الذين رفضوا الهجرة نحو إسرائيل، ومن ذلك يهود العراق الذين اندمجوا في المجتمع العراقي الذي ساوى بينهم وبين العرب فما كان من حل لحثهم على القدوم إلى الدولة الصهيونية غير قتلهم وتفجير معابدهم من قبل مخابرات الصهاينة في بداية الخمسينات من القرن الماضي.. وجدير بالذكر إلى أن الحركة الصهيونية كانت تميز بين اليهود في عملية استقطابهم واستيرادهم إذ كانت تهمل الفقراء والمشردين والضعفاء والمعوقين والمساكين لتأتي بأصحاب رؤوس الأموال والعسكريين والعباقرة والذين كانوا النواة الأولى للمجتمع الصهيوني المتطور اليوم ولا بد أن أشير هنا بـ"إعجاب" أن تلك النخبة من الصهاينة من أطباء ومحامين وغيرهم من المثقفين والمتعلمين قبلوا أن يعملوا في الفلاحة والزراعة والأعمال اليدوية المضنكة حتى يستمروا بالبقاء في فلسطين، التي قاطعهم أهلها، إلى حين تأسيس دولتهم.

  
إذن يمكن القول أن الحركة الصهيونية هي أحد أبرز الحركات العنصرية في التاريخ، عنصرية كانت قمينة ببناء دولة قوية تهدد العرب وتسعى إلى استئصالهم من أجل تحقيق حلم دولة أكبر هي دولة إسرائيل العظمى والتي هي في الحقيقة ليست حلم اليهود المتدينين بل حلم الصهاينة القوميين الذين يرون في العرق اليهودي وليس الدين اليهودي العرق الأرقى، فغالبية المتدينين اليهود يعتقدون بأن أرض إسرائيل لن تكون لهم إلا بعودة المسيح أو المشيح، وأن الزمن الذي يسبق عودته لا مكان فيه لدولة إسرائيل وقدر اليهود التشتت إلى حين ذلك الموعد الموعود.

  
صفوة القول، أن الحركة الصهيونية كانت في بدايتها حركة قومية لا علاقة لها بالدين إلا باعتباره أداة استقطاب، بل إن الجيل الأول من الإسرائيليين كان ينتمي في غالبيته إلى اليسار اللاديني مثل غوالدامائيير وبن غليون. القومية الصهيونية قادت إذن إلى التعصب والذي بدوره قد يقود أحيانا إلى بناء مجتمعات نقية متجانسة كما هو الحال بالنسبة للمجتمع الصهيوني ولكنها لن تكون مجتمعات إنسانية مهما حاولت أن تقنع الآخرين بذلك، إن القومية عامل قوة نعم إذا ما تم إفراغها من كل النزعات الشوفينية والنرجسية التي ميزت الحركة الصهيونية والتي تعتقد في أفضليتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.