شعار قسم مدونات

التنازل والخضوع.. التأقلم في وجوهه القاتلة!

مدونات - حزين الذل الانكسار الحضوعحزن

يُعرفُ التأقلمُ بالوجهٍ اللطيف الذي يقابل عناصر الحياة المتجمّدة بابتسامةٍ واسعة تهضم في معدتها ما يؤكلُ وما لا يؤكلُ حتى، التأقلم بتعريفٍ آخر هو معاملة المعطيات ببساطة أو بردة فعل: وماذا يعني؟ عادي! "سوف نتعايش"، تباعاً يترتب على ذلك تقديمُ التنازلات؛ الواحد تلو الآخر حتى تصل إلى مربّع العدم أو الإعدام!
   
قد يكون التأقلم جيداً أو لطيفاً إلى حدٍّ ما، في مسافة تحفظُ لك عناصر الحياة الكاملة دون خدشها بشيء، وهو إيجابيٌ في حدود الإطار الذي يضمن لك الخطوة الكريمة والهامةِ المرفوعة على امتدادها دون أي طأطأة أو انحناء مفرطٍ تضطرُ إليه كي تعبر من فتحة قُصّرت عمداً بهدف التركيع الضمني.

  
الظروف ليست صرطاً مستقيمة، ولا بساطات حمراء تعجُّ بالورد، أعلمُ جيداً أنها ذلك الطريق الشائك الوعر المحفوف بالصخور والمكسوّ بالليل الطويل، وأدرك أن الصبرَ هو الثمن المدفوع لقاء تمرة المجد المدللة في العُلُوُّ .ذلك مفهوم واضحٌ ومعلوم لدينا، لكنه بمعناه يختلف تماماً عن معنى التأقلم أو بطريقة أصح عن معنى "الخضوع".

  

كلّ تنازلٍ نقدّمه الآن علينا أن نعي تماماً أننا سنقدّم ما هو ضعفه لاحقاً، وأن كلّ سقفٍ قصير نرتضي به، سنقابل الأسقف الأقصر والأثقل منه فيما بعد

بم قد أعرّفه؟ أنا لن أعرّفه، لكني قد أذكر هنا قصة كان قد حكاها أحد الأطباء خلال إجرائنا لأحد العمليات الجراحية الصغرى، قال: "شكا أحدهم إلى عدوّه الحاكم ضيق سكنه الذي يتكون من غرفة واحدة له ولزوجته ولأولاده، فأخبره الحاكم أن يأتي ببقرة وأولادها ويضعهم في ذات الغرفة، تعجّب المواطن، فأكد الحاكم له أن ذلك فيه شيءٌ من الحلّ، ففعلها!، ثم عاد ثانية يشكو الضيق فأخبره أن يأتي بعدد من الخرفان ثم أن يأتي بشيء من الدجاج ثمّ وثمّ.. حتى طفح به الكيل فجاء إلى حاكمه يشكو الضيق المفرط، فأخبره هذه المرّة أن يخرج البقرة ثم بعد ذلك أولادها ثم بعد ذلك الخراف ثم الدجاح، حتى عاد هو وزوجته وأولاده فقط في الغرفة لكنه عاد ممتناً هذه المرة لكل هذا الاتساع وشاكراً الفراغ -على ضيقه! كونه أفضل بكثير مما كان عليه برفقةِ البقر والخراف والدجاج و.. و..".

 
المقصد أنّ التنازلات التي تُقدّم تباعاً دون وقفة تفكير أو احتجاج أو تمرّد، والقوّة التي تتجاوز حدودها بتبجّح مفرط في فرض أطرها وحدودها دون أن تجد صوتاً يقول لها: قفي! هذا أدى إلى تكديسنا وأحلامنا وعناصر حياتنا الأساسية في علبةِ سردين، إذا ما شكونا شيء حاجة ينفسّون العلبة قليلاً، ثم لا يلبثوا إلا أن يضعونا والعلبة في اللهيب فنعود إلى جحيمٍ أسوأ مما كنا عليه كلّ ما نرجوه فقط هو أن نعود إلى ما كنا عليه على لظاه! إلا أنه لظى مقبول لدينا كونه أخف من وطأة هذا الجحيم الذي فرض حديثاً بطريقةٍ مدروسة ومتعمّدة.

 
إنّ كلّ تنازلٍ نقدّمه الآن علينا أن نعي تماماً أننا سنقدّم ما هو ضعفه لاحقاً، وأن كلّ سقفٍ قصير نرتضي به، سنقابل الأسقف الأقصر والأثقل منه فيما بعد، هناك خطوطٌ أساسية لا يجب لأي أحد تخطيها، ولا لآخر أن يقبل بأن يتخطاها عليه أحد، إنّ المسافات التي نضعها والتي نقاتلُ من أجلها، هي قسائم بثمنِ الحريّة، وهذه مناقصة تستحقُّ الثمن الأعلى، وإنّهُ لا أحد على وجه هذه الأرض يستحقّ أن تمتنّ له أنّه منحك وأعطاك، إنّما العناصر موجودة كائنة، وهو إذ يعطيك فإنّهُ يمارس دور التوزيع الطبيعي الذي من المفترض أن يكون كي تقوم قائمة الحياة بمعناها الحقيقي، ودور التوزيع ها هنا ما هو إلا وظيفة كان عليه أن يؤديها، ولا يُمتنُّ لموظفّ لأنه أدى شيئاً من وظيفته.

  
حياتك وظروف العيش الكريمة وهامتك المرفوعة، والعناصر المكتملة؛ هي حقوقك الطبيعية التي لا يُقبل أن تتنازلَ عنها، فليس ذلك من التأقلم، وإن أي تنازل هو متبوع تلقائياً بتنازل، اختر فضاءَك الواسع، لأن سقفكَ على علوّه هو تشكيلة لباقي مصطلحات العلوّ الكريم في حياتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.