شعار قسم مدونات

أن تعيش على أرض مصابة بالسرطان!

blogs - خلايا استيطانية

أصبحت أخبار التوسع الاستيطاني جزء من نشرات الاخبار اليومية، خبر هامشي يذكر عدد الخلايا الاستيطانية الجديدة وكم تبلغ مساحة الارض المسلوبة بالكيلومتر، هكذا كأي خبر تعتاده وسائل الإعلام، فيتقلص الحديث عنه تدريجياً ويتم اختزاله على هيئة أرقام، (الاحتلال يقرر مصادرة 324 دونماً لصالح الخلايا الاستيطانية)، هكذا يمر الخبر أمامك خلال ثوانٍ، ثم تنتقل إلى العنوان الآخر دون أن يخطر في ذهنك أن تسال، كم صارع صاحب هذه الأرض ليحافظ عليها، كم رصاصة أخطأته قبل أن يسقط جريحاً، أسيراً، أو حتى شهيداً، ماذا كانت هذه الأراضي قبل أن تقتحمها الجرافات العسكرية، أو حتى لمن كانت قبل اليوم؟ قبل هذا الخبر بساعات!؟

هل كانت مزروعة لصالح أسرة تعيش من محصول زيتونها السنوي؟ أم أرضاً رعوية تقتات منها الماشية فتعيل عائلات ممن تمارس حرفة الرعي، ربما كان صاحبها يفكر في بناء بيت لأبنائه، أو بانتظار إصدار التصاريح اللازمة لإقامة مصنع يرفع عجلة الإنتاج في بلده، لا يهم ماذا كانت، لا يهم الآن لمن كانت، لقد انتهى الماضي بالنسبة لهذه الارض، لقد تجردت من كل معانيها وأصبحت مجرد بضعة دونمات مسيطر عليها، أياً كان ماضي هذه الدونمات فقد أُزيل الآن بفعل مرض يسمى "الاستيطان". خلايا سرطانية عدائية مدمرة، تنهش عشرات الدونمات من أرضنا يومياً، تغزو النسيج الفلسطيني مقطعة أوصاله بإغلاق الطرق الفلسطينية التي تصل بين المحافظات لصالح إقامة طرق (آمنة) لنقل المستوطنين، هكذا تبدو لي الخلايا الاستيطانية في طريقي إلى عملي كل يوم، وإن غاب عن نشرة الأخبار تفاصيل حكايتها، فإني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير فيها وهي ماثلة أمامي بكامل استقرارها وثباتها، بينما أقف على الحاجز العسكري المقام أمامها.

لا مفر من الواقع إذن، فعلى طول الطريق تنتشر المستوطنات بشكل منتظم مطوقة المحافظات الفلسطينية بشكل دائري، ممتدة على مساحة 538.127 دونما من الأراضي الفلسطينية

"يتسهار" الاسم الذي يعني بالعربية زيت الزيتون، حيث أقيمت هذه المستوطنة على أراضي المزارعين الفلسطينيين في قريتي بورين وعصيرة القبلية، كنواة استيطانية صغيرة على التلال التابعة لتلك القرى، ثم أخذت بالتوسع لتصادر عشرات الدونمات الزراعية المزروعة بأشجار الزيتون من قرى: بورين، وعصيرة القبلية، وعوريف، ومادما، وحوارة. أبنية من الحجر الأبيض مصطفة بعناية في سطور منسقة بعضها سقفه مغطى بالقرميد الأحمر، هكذا تبدو لي من نافذة السيارة، ولا فكرة لدي عن طبيعة الحياة التي قد يعيشها الآخرون هناك في مدينة أقيمت فوق الدماء، هل يقيمون حفلات شواء، هل يشاهدون التلفاز؟ هل يتابعون الأخبار مثلنا؟ هل يبكون إذا ما أصيب جندي لهم في مواجهات بالحجارة مع أطفالنا، كما نبكي نحن إذا ما استشهد ذلك الطفل بنفس اللحظة؟

كيف يروننا من نافذة تلك البيوت المنتظمة أعلى الجبال، هل يخافون منا -نحن أصحاب الأرض والحق، والذين لم يعد لدينا ما نخسره بعدما خسرنا أرضنا، أم نحن من نخافهم هم من ينام والسلاح على جنوبهم، وأقاموا حولهم الحواجز العسكرية لحمايتهم وتظل الإعلام الزرقاء ترفرف حولها، لتؤكد لنا أنهم هم أصحاب الأرض، ولن يمنعهم قرار رقم 448 الصادر عن مجلس الأمن في مارس 1979، والذي اعتبر المستوطنات غير قانونية، ولا أي قرار آخر أو حتى استنكار محلي أو دولي. أنظر أمامي فأرى شارعاً يبدو أنه تم رصفه حديثاً، متسعاً وأكثر أناقة بالمقارنة مع الشارع الذي أسير عليه، فأعرف أنه يؤدي إلى مستوطنة أخرى، هي مستوطنة معاليه افرايم، وهي جزء من مستوطنات المحور الشرقي لمحافظة نابلس المطلة على غور الأردن، يمتد هذا المحور من السفوح الشرقية لجبال نابلس الشرقية، حتى نهر الأردن.  ويأخذ امتداد الغور من الشمال إلى الجنوب؛ فيبدأ من مستوطنة مجدوليم، ويمر بمستوطنات: "معاليه أفرايم، جيتيت، ومخورا، والحمرا، وبقعوت، وروعي، وحمدات، وبلاس، ومسكوت، وروتم، ومحولا، وشيدموت محولا، وبترنوت شيلا، وارجمان، ومسؤاه، ويافيت، وشلومو متصيون، وبتسائيل، وتومر، وجلجال، وونتيف هجدود".

لا مفر من الواقع إذن، فعلى طول الطريق تنتشر المستوطنات بشكل منتظم مطوقة المحافظات الفلسطينية بشكل دائري، ممتدة على مساحة 538.127 دونما من الأراضي الفلسطينية. 15 بالمئة هي نسبة الأراضي التي نجت حتى الآن من الزحف الاستيطاني، النسبة التي تشكل ما بقي لنا من مجمل أراضي فلسطين التاريخية التي تبلغ مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع. أتساءل كم سيصمد ما تبقى لنا من أرض أمام هذه الخلايا العدائية، في ظل تراجع ملحوظ للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وغياب الموقف الدولي الداعم لها، حتى أصبح المواطن الفلسطيني يواجه المشروع الصهيوني وحده، هذا المشروع الذي تشكل الجماعات والحركات الاستيطانية جزءًا أساسيًا منه.

undefined

 
لا تتوقف خطورة الاستيطان على احتلال الأرض وإخراج أهلها منها قسراً وظلماً، وإحلال المستوطنين مكانهم على شكل خلايا استيطانية، ولما كانت الخلايا السرطانية تؤثر على الخلايا السليمة القريبة منها، عبر إفرازات معينة، لتعمل على إتلافها أو تحويلها إلى خلايا سرطانية جديدة، فالأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة إلى الخلايا الاستيطانية، فما أن يقيم الاحتلال مستوطنة جديدة على الأراضي الفلسطينية، حتى يبدأ سكانها من المستوطنين بممارسة شتى أنواع الاعتداءات بحق الفلسطينيين من سكان القرية التي أقيمت المستوطنة على أراضيها، بدءاً من الاعتداء على الممتلكات الخاصة من تحطيم السيارات، الاعتداء على المساجد والمدارس، وصولاً إلى اقتلاع وتقطيع الأشجار أو حرقها، خاصة شجرة الزيتون، هذه الشجرة التي تشكل دعامة الأرض الفلسطينية وجوهر الاقتصاد الوطني، قد دفعت ضريبة صمودها تماماً كأصحاب الأرض، ونالها ما ناله من اعتداء وقطع وحرق وسرقة بهدف تحويل هذه الأراضي المثمرة والمنتجة إلى أراض جرداء ليتم لاحقاً الاستيلاء عليها لصالح المستوطنات الجاثمة على الأراضي الفلسطينية.

 

ولا يتوقف العنف عند حرق الشجر، والاعتداء على الماشية، فبعد أن أمن المستوطنون من المقاومة بفضل جيش الاحتلال الذي يوفر لهم الحماية الكاملة، وشعروا أن أحداً لن يتعرض لهم، بدأ عدد منهم بتنظيم هجمات ضد القرى في المنطقة ذاتها، إذ أصبح القروي الفلسطيني هدفاً أمام المستوطن الذي لم يكتفِ بسرقة أرضه وحرق رزقه، بل تعداه إلى الاعتداء عليه بالشتائم والتهديد واعتداءات جسدية تمثلت بالضرب وإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على منازل المواطنين وإطلاق النار والدهس والحرق، كان أبرز هذه الاعتداءات ما حدث مع عائلة دوابشة في دوما / نابلس في آب 2015 حينما أقدم مستوطن على التسلل الى القرية ليلا وأحرق منزل العائلة وهم نيام، مما أدى إلى استشهاد الأب والأم والرضيع الصغير في حادثة هزت الشارع الفلسطيني وأثارت غضباً جماهيرياً، أدى إلى اندلاع مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي بالضفة الغربية، كما جوبهت حادثة الحرق بعاصفة قوية من التنديد محلياً وخارجياً، عاصفة لم تحرك مستوطنة من مكانها، ولم تنجح لغاية الآن – وبعد مرور ثلاث سنوات على الحادثة – لم ينجح الموقف المحلي أو الدولي في الضغط على الاحتلال لإدانة المستوطنين المتهمين بالجريمة رسمياً ومحاكمتهم محاكمة عادلة.

 

شعبياً، قاوم الفلسطينيون هذه الاعتداءات، فاستحدثوا "نواطير الأرض" في سبعينيات القرن الماضي، ويطالبون بإعادة إحياء الفكرة بعد زيادة هجمات واعتداءات المستوطنين. ويواصل الفلسطينيون تنظيم مسيرات أسبوعية مناهضة للاستيطان ومصادرة الأرضي، لعل مسيرات بلعين ونعلين وكفر قدوم والنبي صالح أكثرها إصرارًا على مواجهة هذه الاعتداءات، في محاولة لتكرار تجربة الانتصار التاريخي الذي حققته غزة، عندما نجحت المقاومة الشعبية تحت قيادة فلسطينية موحدة، في استئصال الخلايا الاستيطانية وذلك بعد جرعات مكثفة من النضال والمقاومة المستمرة التي اربكت الاحتلال وزعزعت أمن المشروع الاستيطاني هناك، فما كان من الاحتلال إلا أن انسحب بعد أن غدت مسألة استقراره ونموه وبقاءه هناك أمراً مستحيلاً، تلك كانت المرة الوحيدة التي دُفع فيها الاحتلال إلى كبح جماح الاستيطان.

 

لكن اليوم تشهد الحالة الفلسطينية تراجعا على كافة الأصعدة والمستويات، وتجد أن محاولات الفلسطينيين لمقاومة الاستيطان هي أقرب إلى المحاولات الفردية، تفتقر إلى العتاد والتنظيم والديمومة، وتأخذ شكل محاولات الدفاع عن النفس بسبب قلة الإمكانيات، وغياب أي مبادرات لمواجهة هذه الهجمات من قبل السلطة أو الأحزاب السياسية، وعلى المستوى الرسمي، لا تعد الردود بمستوى خطورة الاعتداءات، فعادة ما يكون الرد على التوسع الاستيطاني، واعتداءات المستوطنين ما بين الإدانة والاستنكار، أو المطالبة بتوفير الحماية الدولية للفلسطينيين. أن تعيش على أرض مصابة بالسرطان، يعني أن تعيش في خطر منظم، وعندما لا يجد المرض علاجاً رادعاً له، فإنه سوف يستمر بالنمو والتمدد والتطور حتى يستولي على كامل الخلايا ويحولها الى خلايا مرضية، وفي الوقت الذي استشعر المستوطنون أن كل تصرفاتهم واعتداءاتهم تمر دون حساب، فسوف يستمرون في تصعيد اعتداءاتهم وزحفهم على الارض حتى نجد أنفسنا ذات يوم وقد تحولت مدننا الى مجرد "كنتونات" صغيرة محاصرة بالمستوطنات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.