شعار قسم مدونات

مواقع التواصل من التسلية إلى صناعة الآلهة

blogs - فيسبوك

فيما ما مضى من القرون وقبل انتشار القنوات الفضائية الخاصة منها (تحديداً) والعامة عموما، ووسائل التواصل الاجتماعي كتويتر وفيسبوك، حين ذاك كانت النخب من العلماء والمشايخ والمثقفين والمفكرين من أمتنا، لا نرى منهم سوى مؤلفاتهم المحكمة اللغة وأفكارهم دقيقة المعنى، أو نستمع إليهم عبر أشرطة الكاسيت K7. وذاك ما كان يسمح إلا لمن كرّس حياته للعلم والمعرفة والبحث عقودا طويلة من عمره، حتى يمكّن له من انتزاع مكان له في رفّ مكتبة مغمورة.

 

وكم كان الأمر جميلاً، حين أصبح العامة من الناس والمعجبين يرون بأم أعينهم محبيهم من النخب والعلماء والمفكرين والمثقفين وذوو الرأي والمشورة وغيرهم، بعد انتشار أشرطة الفيديو في ثمانينات القرن العشرين وتسعينياته، فبدأ ذاك التقارب بين علماء المشرق والمغرب ومحبيهم، وبداية انتشار القنوات المجانية الخاصة كموقع يوتيوب والقنوات الفضائية، وإتاحة خدمات الانترنت عبر مراحلها المختلفة 0.1 حتى 0.4 وأكثر.

 

في هذه الأثناء بدأت بوادر ما يعرف بظهور ما يعرف بالسوشيل ميديا (Social media) أو مواقع التواصل الاجتماعي في الوطن العربي خاصة بين عامي ألفين وستة 2006 وألفين 2007 وصول ذرة انتشارها ليوم الناس هذا.

 

في عصرنا هذا ومع توفر مواقع التواصل المجانية فيكفيه كبسة زر، أن يجيش آلاف المريدين البُلهاء من داخل غرفة مكيفة وجهاز لوحي من أفضل طراز

وكانت تعتبر نقلة نوعية كبيرة لا يستهان بها في مجتمع عرف عنه الانعزال التام عن العالم الخارجي والانطواء التام عن الآخرين. مما سبب للكثيرين انبهارا كبيراً بما يمكّنه له هذا الموقع المجاني من مميزات كبيرة أهمها التواصل مع أناس آخرين في أوطان مختلفة عبر ربوع العالم الشاسع.

 

ولكن ما نود دراسته في هذا المقال المطول، تداعيات ومآلات هذه الصحوة المفرطة لدى عموم الناس بها، والانبهار اللامعقول بالكم الهائل من الشخصيات العامة والفكرية منها والنخبوية والفنية والأدبية والثقافية وغيرها!.

 

ويتساءل البعض لماذا لم أعرج على ذلك الشخصيات العلمية من بين كل هؤلاء، سأجيب بأنني أعلم يقينا أن الشخصيات العلمية الأكاديمية المخلصة لمهنيتها فهي لن تجد وقتا ولو قليلاً ربما لتجييش الجيوش الإلكترونية حولها (وهذا أمر لا يختلف فيه إثنان ربما حسب اعتقادي)، فهناك من تلامذتهم ومريديهم من يتصيدون أبحاثهم ونتائجهم العلمية الفكرية ليتيحوها أمام من يهتم عبر قنوات مختلفة، ولا يخفى على أحد من العرب والمسلمين أن المجتمعات العربية عبر تلك المواقع استطاعت أن تغير الكثير في حياتها (إيجابيا كان ذلك أو سلبيا)، ولكن ذلك قد وقع.

 

وأعود وأقول باستثناء العلماء الباحثين والقلة القليلة من النخب السياسية والاقتصادية والثقافية التي نأت بنفسها من أوهام مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الكثير منهم صار له مريدين في كل مكان ومن جميع الطبقات الاجتماعية، يكاد أن يلقي أمامهم كل شيء من أفكار إيديولوجية موجهة تماماً ليلتقفوها وهم مغمضي الأعين مطموسي البصيرة، ما يزيده تشجبعا من وضع طعم يتلوه طعم آخر، حتى يحشوَ أذهانهم بما يشبه الدجل ليغيبهم تماماً عن الإدراك، ويعتم عنهم الحقائق ويسوقهم سيق الشاة!.

 

وما يدعُ إلى اليقين أن أولئك المحبين والمعجبين بالشخصية (ألف) أو بالشخصية (باء)، قد أصبحوا مجرد ذباب إلكتروني حوله، فيكفيك مثلاً أن تخالف جزءًا معينا مما أورده فيه مقاله أو نصه أو فكرته، فسكون أمام أقواس رمايتهم ونقطة تسديد سهامهم، فيخيل إليك حينها أنك أمام مريدي معبد في حضرة إله لهم. فكيف لك أن تتجرأ وتحوم حول حمى المثقف (ألف) أو المفكر (ب) وقد تناسوا تماماً وهم منومون بمحبة قائل المقال لا براعة الفكرة ووضوحها.

 

ومن هنا ستبدأ ظاهرة جديدة ما شهدناها إلى ما يروى لنا عن صناعة آلهة وأصناما تعبد من دون الله هنا وهناك، ولكن حينها كان على الإنسان أن ينفق كل عمره ليجمع ويجيش بعض المريدين كالكهنة والسحرة والمشعوذين، ولكن في عصرنا هذا ومع توفر مواقع التواصل المجانية فيكفيه كبسة زر، أن يجيش آلاف المريدين البُلهاء من داخل غرفة مكيفة وجهاز لوحي من أفضل طراز!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.