شعار قسم مدونات

جرد حساب المعتقلين.. والسكتة القلبية هي الحل

blogs- سجون سوريا

من المعروف في التجارة مفهوم جرد الحسابات والذي يقوم به التاجر كل شهر أو كل سنة لمعرفة حجم خسائره أو أرباحه وعلى أساسها يرسم خطة عمله لما هو قادم، ولكن كيف إذا كان هذا التاجر أصلا لا يملك رأس المال وإنما سرقه عنوة وقسرا وقد وجد نفسه على باب المساءلة في نهاية المطاف؟ وكيف إذا كان رأس المال هذا هو دماء آلاف الأبرياء!؟..

 

على مدى سبع سنين قام نظام الأسد بزج مئات الآلاف من السوريين في معتقلاته وجميعهم دون تهمة أو ذنب سوى أنهم أرادوا أن يعاملوا معاملة البشر، فوجدوا أنفسهم في أقبية ظلماء تمارس عليهم فيها شتى صنوف العذاب وألوان من الإذلال والتنكيل لم تخطر على بال شياطين الأرض مجتمعة، بل أن الكثيرين منهم لم يطالبوا أو يشاركوا بأي شيء فمنهم من ذهب ضحية "تشابه أسماء" ليقضي سنينا في المعتقل بهذا التشابه ومنهم من ذهب ضحية مزاج سيء لعنصر على حاجز ما، رأى في اعتقاله وتعذيبه تعديلا لمزاجه وترويحا عن نفسه.

 

يحاول النظام السوري جاهدا أن يجمع أكبر عدد من المعتقلين منهم نساء وأطفال وشيوخ ويرفض العديد من صفقات التبادل عليهم مقابل ضباطه وجنوده التي يدعي الحرص عليهم

وفي ظل تلك الأعداد الهائلة من المعتقلين والتي كانت ستتضاعف لو لم يضطر نظام الأسد لإخلاء سبيل قسم كبير منها بعد أن وصل لمبتغاه منهم في تحطيم الإنسان داخلهم وكسر إرادتهم -حسب ظنه- وذلك الإفراج لا ينبع من رحمة أو شفقة عليهم بل ليزج مكانهم المزيد والمزيد في سجونه التي ما عادت تتسع، وفي ظل الأعداد الأخرى من الذين قتلوا تحت التعذيب أو في المحاكمات الميدانية أو من الجوع و الأمراض المختلفة التي سببتها عفونة وقذارة المعتقلات، صار من المستحيل عليه إحصاء أعدادهم وترتيب ملفاتهم التي لفقها لهم باعترافات تكتب على هوى المحقق ومزاجيته.
 
أذكر حين أدخلوني فرع الأمن العسكري في حماه معتقلا كيف وقفت أمام زنزانة من المفترض أنها "منفردة " طولها متر ونصف وعرضها متر واحد -من ضمنها المرحاض- أبحث لنفسي عن مكان بين ثلاثة أشخاص يجلسون داخلها مندهشا مما أراه قبل تقاطعني ركلة من السجان على ظهري لأسقط فوقهم وأغلق الباب، أذكر هذا الموقف كي تتخيل معي عزيزي القارئ الأعداد الهائلة التي تقبع في سجون الأسد.
 
والآن بعد أن أشرفت روسيا إثر دخولها الحرب علنا إلى جانب نظام الأسد منذ العام 2015 على اجتياح مئات المدن والقرى وتهجير أهلها إلى الشمال السوري وبعد أن ارتكبت العديد من المجازر في سبيل ذلك، ووضعت نفسها -وهي الشريكة في الجريمة- على رأس الدول الضامنة والراعية للحل في سوريا من خلال مؤتمرات أستانة التي تمخضت عن مناطق خفض تصعيد وغيرها من المقررات التي ترتبها حسبما تريد، و سيأتي الدور -كما هو محدد لاحقا- على فتح ملف المعتقلين، ولكن ذلك لن يتم قبل أن تشرف روسيا أيضا على ترتيب أوراق هذا الملف.

   undefined

 

هذا الملف الذي لطالما تعنت النظام فيه لأنه يعلم حقا أنه من أكثر الأوراق التي يمتلكها ربحا ولذلك حاول جاهدا أن يجمع أكبر عدد من المعتقلين منهم نساء وأطفال وشيوخ ويرفض العديد من صفقات التبادل عليهم مقابل ضباطه وجنوده التي يدعي الحرص عليهم، ولكن رغم أهمية هذا الملف عنده إلا أن العقلية الهمجية التي تسيطر عليه من رأسه حتى الذيل جعلت من ملف المعتقلين مبعثر الأوراق تائه الحسابات فالمقابر الجماعية ليس لها أرشيف.
 
وترتيب أوراق ملف المعتقلين وجرد حسابهم يبدأ أولا بطمس معالم جريمة قتل عشرات الآلاف تحت التعذيب أو بمحاكمات ميدانية، وذلك ما يحدث فعلا الآن حيث شرع النظام بإرسال شهادات وفاة إلى ذويهم وتسجيلها في دوائر السجلات المدنية بأسباب ملفقة بعيدة عن الحقيقة فقد كان سبب وفاة معظمهم وفاة طبيعية نتيجة "سكتة قلبية"!
   
وقد تم تسجيل جميع حالات الوفاة بتواريخ قديمة كما أنه من البديهي أيضا أن جميع من ماتوا بتلك السكتة القلبية لم تسلم جثثهم لذويهم واكتفوا بتسليمهم ورقة تدعى شهادة وفاة والتي كان من المفترض أن تسمى شهادة إجرام بتقدير، مثلما أن سبب الوفاة كان من الأجدى أن يكون " سكتة عالمية، سكتة ضمائرية، سكتة إنسانية، سكتة أخلاقية..".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.