شعار قسم مدونات

أوراق عائد من أفغانستان(5).. بن لادن مر بجلال آباد!

blogs جلال آباد

خلال فترة إقامتي بكابل سنحت لي فرصة زيارة مدينة جلال آباد عاصمة إقليم ولاية ننغرهار المنكوبة أمنيا.. فهذه الولاية الحدودية مع باكستان والمفتوحة على حدودها ومناطقها القبلية جعلها مضطربة أمنيا. وفي أطرافها المترامية وجد تنظيم الدولة الإسلامية موطئ قدم له فهذا التنظيم المتطرف ينتعش فقط في مثل هذه المناطق المضطربة أمنيا مثل البعوض الذي يفضل مياه المستنقعات.

 

حين تزور جلال آباد تفهم سر تفضيل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن هذه المدينة موطنا له لسنين.. وعلى ذكر بن لادن فأطلال منزله ما زالت شاهدة على وجوده بهذه المدينة إلا أن أهلها يتحاشون ذكره أو التطرق إلى سيرته كمن عاش كابوسا مزعجا في إحدى فترات حياته ويريد نسيانه بأي طريقة. وما زالت ذكرى أسامة بن لادن شاهدة على أحد أسباب مآسي البلد الحالية فقد كان امتناع حركة طالبان عن تسليمه بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر سببا مباشرا للحرب الأمريكية على أفغانستان وحربها على الإرهاب.. وطيلة سنوات عدة كان الرجل يتخفى بالمنطقة مستغلا الثغرات الأمنية الموجودة بها وجبال تورا بورا الحصينة القريبة ومناطق القبائل المفتوحة مع باكستان.

 

في تلك الجبال كنا نشاهد الرجل على شاشات التلفزيون وهو يتوكأ عصاه ويسرب مقاطع صوتية.. وفي نهاية المطاف قتل في أراض باكستانية غير بعيد عن الحدود الأفغانية وما تزال ملابسات مقتله تثير الكثير من الجدل بسبب السرية التي أحيطت به وتخلص القوات الأمريكية من جثته بطريقة قيل إنها لتفادي أن يصبح قبره مزارا أو رمزا.. فالجميع يرغب في طي تلك الصفحة الأليمة من حياة أفغانستان. وقد رحل بن لادن إلا أن القوات الأمريكية باقية رغم تجديد وعودها بالرحيل حيث رحلت الكثير من القوات الدولية وبعضها خفض من قواته نهاية ألفين وأربعة عشر وسلم القيادة الأمنية للقوات الأفغانية المحلية أو تحول إلى تدريبها. أما تعداد القوات الأمريكية التي تمثل جل القوات الأجنبية في أفغانستان فيصل حاليا إلى أربعة عشر ألف جندي حسب آخر الإحصائيات.

 

حينما تكون أجنبيا في بلد متوتر أمنيا تصعب فيه السيطرة على المسلحين تكون مجبرا على أن تقيم وزنا لكل حركة أو سكنة.. فقد فضلنا منذ خروجنا من كابل أن نركب سيارة صغيرة عادية لا تثير الانتباه بدل سيارات الدفع الرباعي

كانت كهوف جبال تورا بورا القريبة من جلال آباد موقعا حصينا لبن لادن والآلاف من أتباعه حيث كانت واسعة جدا وبها أنهار تجري تكفي للشرب والغسل وتوليد الكهرباء وتجعل قاطنيه مستقلين تماما عن العالم الخارجي. وقد سعيت لتسليط الضوء عليها من خلال تقرير تلفزيوني إلا أن مرشدنا أكد أنها أصبحت مناطق عسكرية يتطلب الدخول إليها تصريحا خاصا ومساعي ليست بالسهلة.

 

كانت الطريق من كابل إلى مدينة جلال آباد جبلية وعرة.. ذكرتني بسلاسل جبال الشفة التي يتعين على المسافر أن يقطعها حين يغادر مدينة الجزائر جنوبا إلا أن جبال أفغانستان كانت جرداء مقفرة وشديدة الوعورة عكس نظيرتها الجزائرية. وكانت التعزيزات الأمنية واضحة على جنباتها حيث تنتشر السيارات العسكرية المدرعة للجنود على طولها.

 

يقطع قفر المشهد مياه وادي كابل الذي يمتد على جنبات الطريق وباعة الخضر في بعض المناطق المزروعة ويوجد أيضا باعة الأسماك قرب البحيرات والسدود حيث يعرض بعضهم هذه السلعة النادرة في أفغانستان التي لا يعرف أهلها شكل البحر أو الشاطئ. والأسماك لا تصل أفغانستان إلا مجمدة وبأسعار لا يقوى عليها جيب الأفغاني المتوسط فما بالك بالفقير المعدم.

 

وعلى ذكر البحر… فلا تتوفر للبلد حدود بحرية ويعتمد كليا على الجارتين إيران وباكستان في النقل البحري. وفي ظل الوضع المتوتر مع جارتها باكستان على خلفية اتهامها المتكرر بدعم حركة طالبان يبقى أمام أفغانستان خيار وحيد وهو ميناء شاباهار الإيراني إلا أن تجدد العقوبات الأمريكية على طهران يؤثر حتما على واردات أفغانستان ويجعل مجال المناورة أمامها ضئيلا. وقد استعانت السلطات الأفغانية بفتح جسور جوية آخرها حضرنا تدشينه وتم مع تركيا حيث يتكفل بنقل خمسة عشر طنا من السلع يوميا إلا أن ذلك لا يكفي بالمرة ويصلح لنقل المنتجات الخفيفة فقط كما أن السعر المرتفع للشحن الجوي يجعل اللجوء مقتصرا عليه في بعض الحالات فقط.

 

حينما تكون أجنبيا في بلد متوتر أمنيا تصعب فيه السيطرة على المسلحين تكون مجبرا على أن تقيم وزنا لكل حركة أو سكنة.. فقد فضلنا منذ خروجنا من كابل أن نركب سيارة صغيرة عادية لا تثير الانتباه بدل سيارات الدفع الرباعي التي توجه دعوة مباشرة للخاطفين ليظفروا بالصيد الثمين الذي يركبها خاصة إذا كان أجنبيا. أخذت المقعد الأمامي لأمتع نفسي برؤية الطريق واستكشافها جنب السائق تاج الذي خبر طرق البلاد لاشتغاله في مكتب الجزيرة سائقا طيلة سبعة عشر عاما. كانت لحيته الكثة البيضاء ولباسه الأفغاني المحلي مفتاح عبور سهل في الحواجز الأمنية ويوحي بأنه ابن المدينة أينما حل لولا لوحة الترقيم المكتوب عليها اسم المدينة كابل.

 

فور الخروج من المدينة طلب مني الزميل حميد الله أن أنزع حزام الأمان حتى لا يعرف أي أحد أنني غريب عن البلد.. لبيت طلبه فورا مستغربا من التفريط في إجراء أمان ضروري مقابل تفادي حصول أي مكروه.. ولاحقا ولكي أتمكن من التحرك بكل حرية ارتديت اللباس الأفغاني المحلي طيلة إقامتي بجلال آباد. تشبه مدينة جلال آباد في حركة شوارعها وزحمة مرورها أي شارع في باكستان أو الهند فدراجات التوك توك النارية ذات العجلات الثلاث تملأ شوارعها وأصبحت سيارة الطاكسي المفضلة في المدينة حيث تتسع لسبعة أشخاص.

 

والمتجول في المدينة يعاين حذر الناس وخوفهم من أي حركة غير مشبوهة فالمدينة تعرضت قبل أيام من زيارتنا لها للكثير من التفجيرات الانتحارية آخرها استهداف مقر لوزارة المالية وسط المدينة بسيارة مفخخة خلفت قتلى وجرحى. وخلال مرورنا على موقعها كانت حركة العمال دؤوبة لمحو آثارها. كما أن آلة الموت والدمار لاحقت أهل المدينة حتى في أفراحهم وألعابهم حيث سبق زيارتنا للمدينة بثلاثة أيام تفجير في ملعب رياضة الكريكيت البلدي بالمدينة مخلفا قتلى وجرحى أيضا. وقد تسبب هذا الوضع الأمني المتردي في إقالة الرئيس الأفغاني لحاكم المدينة وقائد الشرطة وأربعين مسؤولا أمنيا وصادف وقت وجودنا بالمدينة تعيين حاكم جديد وقائد شرطة جديد أيضا حيث نظم احتفال لتسليم وتسلم المسؤوليات الأمنية وكان حفل تكريم المقالين أشبه ما يكون بالاحتفاء بتلميذ رسب في امتحان نهاية العام.

 undefined

أتيحت لنا في أحد أيام إقامتنا بجلال آباد فرصة الإفطار مع رياض درمل رئيس بلدية المدينة في بيته الحصين.. كان يقيم في نفس المجمع السكني لحاكم المدينة وقادتها الأمنيين وبلغ عدد الحواجز التي تجاوزناها أربعة أو خمسة ثم تصل إلى طريق مليئة بالسواتر الترابية وسط الطريق وضعت بطريقة تمنع أي سير سريع للسيارة.

 

كان عمدة المدينة شابا في مقتبل العمر ومن الطريف أنه أتم دراسته الجامعية في الجامعة الكاثوليكية بمدينة ليل شمالي فرنسا حيث درست أيضا وأقمت فترة من الزمن.. كان حديثنا منصبا على اجترار جمال تلك المدينة وأحياءها. قال إنه يعرف حي قامبيطة وسوق وازام الشعبي وكثيرا ما كان يستعمل خط الميترو الأوتوماتيكي الأحمر للتنقل بين الإقامة الجامعية والجامعة. كانت لغته الفرنسية عرجاء وقال إنه حصل على منحة خاصة لإتمام دراسته في شؤون المدينة والتهيئة الحضرية بلغة شكسبير في عقر دار فولتير.

 

سألته عما بإمكانه فعله لبلدته التي تعاني من الأمرين فلخص المشهد في عبارتين: لا مجال للمقارنة فنحن هنا نسير الأمور الطارئة لشؤون السكان منذ زمن وليس لنا أي وقت لتسيير شؤونهم العادية. راعني أيضا وجود مجاري المياه القذرة على جنبات الطريق.. وفي هذا الأمر تتساوى جميع المدن الأفغانية. فلا وجود لقنوات صرف المياه القذرة تحت الأرض مثلما تعودنا عليه في أغلب مدن العالم بل توجد على جانبي الطريق على شكل سواق تمر منها هذا المياه متسببة في زكم الأنوف وانتشار البعوض والأمراض. ولكم أن تتصوروا صيف جلال آباد الحار الذي تضاهي حرارته حرارة بلدان الخليج مع روائح هذه المياه وبعوضها الذي تحملناه بضعة أيام في الفندق المتهالك الذي أقمنا به رغم موقعه الجميل الحصين وحديقته الغناء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.