شعار قسم مدونات

الكمال الآلي.. هل صنع الإنسان الآلة لتقوده؟

مدونات - روبوت إنسان آالي

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري "إنّ معظم المصطلحات السلبية التي طورتها العلوم الاجتماعية الغربية تدور حول موضوع واحد، هو إزالة الإنسان كظاهرة مركبة مستقلة حرة". من أجل تيسير الحياة على الإنسان والقدرة على القيام بالمهام الصعبة أو غير الممكنة عندنا نحنُ البشر؛ صنع الإنسان الآلة، وبمرور الزمن يبدو أنه قد نسي ذلك.
   
تخسر البشرية في عصرنا كل يوم ضد الآلة وما زال الأمر مستمرًا. تعظيم قيمة الآلة في هذا العصر ناتج من هزيمة ظاهرة أمامها، فالمجتمع الغربي ومن يتبعه من المجتمعات، عربية كانت أو لم تكن؛ أصبحت أسيرة بالآلة، فلماذا هذا؟ خسارة الإنسان الحديث أمام الآلة ليس ناتجًا عن قصوره كإنسان بل هو ناتج عن تركه لإنسانيته. فلقد أصبح الإنسان الحديث لا يرى إلا بُعدًا واحدًا مُكونًا له وهو البعد المادي الجاف المنقطع عن أي جانبٍ متعالٍ عليه، وهذا المنظور هو ما تبرع فيه الآلة حقًا، وبذلك اعتقد بالهزيمة وانبهر بالغالب وانقاد وراءه يلهث.

  

لا يقتصر تفرد الإنسان عن الآلة أو غيرها في معيار التقوى فحسب بل في ما يتطلبه ذلك أيضًا من إرادة لفعلها أو تركها

في هذا العصر، ولا أقصد غير عصر الآلة الصماء، تجد أناسًا كثيرين ومن كل مكان فرحين بما قدمته الآلة من قفزة هائلة نحو التطور الصناعي والتقني، لقد أمسوا منبهرين بالآلة فاّتبعو دينها، وتسننوا بسننها، رجاءً في الوصول لصفاتها؛ هم يجدون في الآلة الإنتاجية العظيمة والكفاءة العالية والقدرة على القفز السريع نحو المستقبل الذي نهيمن فيه على كل شيء.
   

لذلك أرادوا أن يتطّبعوا بطباع الآلة ليدفعوا بأنفسهم للحد الأقصى من الكفاءة متصفين بكل أمرٍ بليدٍ جاف خاوي من المعاني المتعالية، والمؤسف أنهم يعتقدون بقدرتهم على المنافسة في هذا المضمار، ولكن بشريتهم ستجرهم دائمًا للأسفل، لما دون الآلة، وقد سأموا من هذا الجر، وها قد جاءت لهم الفكرة بالتخلي عن بشريتهم، عن كل نقص؛ سعيًا للكمال الآلي. ستفشل الفكرة ويخسرون المنافسة ثم يخسرون أنفسهم.. لماذا في اعتقادهم خسروا؟ بالطبع لأنهم أدنى من الآلة! ولذلك تستحق هذه الآلة أن تقرر مصيرنا، لقد اعترفوا بهزيمتهم وسلموا لها زمام الأمر.

 
بانقطاع الإنسان عن الله جل في علاه وإهماله لمنظومة الخالق المُنزلة بالوحي سُلب منه ما يميزه كإنسان ، فجَعل كل أدنى أعلى منه، فتجده تارة يخسر أمام آلة وتارة يخسر أمام حيوان لأنه اعتقد أن الكفاءة أو السرعة أو غيرها من المعايير القاصرة هي من تحدد الأفضل. وها قد خسر مكانه في هذا الانتخاب الطبيعي، وأصبح تائهًا لا يجد مكانًا ينتمي إليه. وقد عبر الله عز وجل في القرآن عن ذلك وقال "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُُ الْفَاسِقُونَ" الحشر – 19
  

أي إنسانٍ مهما تعددت مساوئه وتدنت صفاته أفضل من كل آلة مهما عظم شأنها وذلك لقدرة هذا الإنسان على اكتساب التقوى ورفع منزلته
أي إنسانٍ مهما تعددت مساوئه وتدنت صفاته أفضل من كل آلة مهما عظم شأنها وذلك لقدرة هذا الإنسان على اكتساب التقوى ورفع منزلته

 

إن سبيلنا للخلاص من سطو الآلة يكمن في انتباهنا لحقيقتنا نحن البشر وتفعيلنا لجانبنا الإنساني، ولا يكون ذلك إلا من خلال استحضارنا الدائم لمهمتنا في هذه الحياة الدنيا، وإدراكنا لمنزلتنا. وقد أبان الله تبارك وتعالى التقوى كمعيار للتفضيل حيث قال "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات – 13

 

بوضوح معيار التفضيل، يسقط كل ما سوى الإنسان من هذه المنافسة وتظهر منزلة الإنسان بجلاء، فلا يمتلك غيره في هذه الدنيا القدرة على اكتساب التقوى. فيصير أي إنسانٍ مهما تعددت مساوئه وتدنت صفاته أفضل من كل آلة مهما عظم شأنها وذلك لقدرة هذا الإنسان على اكتساب التقوى ورفع منزلته بعكس قرينه في المفاضلة الذي لا يملك القدرة على اكتسابها من الأساس.
   

ولا يقتصر تفرد الإنسان عن الآلة أو غيرها في معيار التقوى فحسب بل في ما يتطلبه ذلك أيضًا من إرادة لفعلها أو تركها وقابلية اكتساب معاني الخير والشر، كل هذا وأكثر ممتنع عن الآلة. صَنع الإنسان الآلة وانبهر بها وانقاد وراءها وأعطى لصنعه مظهر الكمال، الكمال الآلي. فهل حان الوقت لينتبه أنه قد نسي نفسه ومنزلته وأنه هو صانع ما هو مُنقاد له؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.