شعار قسم مدونات

الوطن.. تحت سقف الغربة

blogs مطار

في نيسان عام 2012 غادرتُ سوريا متَّجهاً إلى لبنان، في الحقيقةِ كانَ يوماً بائساً بغرضِهِ -غرض الرَّحيلِ والنَّأي عنِ الدِّيار- لا بوجهتِهِ. كأيِّ إنسانٍ عندما يصلُ لأرضٍ أو مكانٍ جديدٍ ينمو لديه حسُّ النَّقدِ والمقارنةِ، للوهلةِ الأولى لَمْ أشعرْ باختلافِ شيءٍ بين الأرضين، الطَّقس وحده هو ما أوحى لي بذلكَ فيما بعد، لقد كانَ رطباً وحارّاً، فالبحر في لبنان لنْ يفارقَكَ حيثما تطأ قدماك. في شمال لبنان ما منْ ثمَّة اختلافٍ ثقافيٍّ كبيرٍ، فخوف النَّاسِ منَ النَّاس وحديث النَّاسِ عنِ النَّاسِ ذاته.

 

تتشابهُ همومُ الشَّعبينِ نوعاً ما منَ النَّاحيةِ السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والعلميَّة والمهنيَّة، كلانا نملكُ المصيرَ ذاته والعقباتِ ذاتها. الفرق الوحيد الّذي وجدته كانَ الطريقةَ الّتي يتعاملُ بها كلا الشّعبين مع واقعه. شعب لبنان شعبٌ مكابرٌ، يشتكي بطرقٍ مكابرةٍ، بوسائل لا تظهرهُ ضعيفاً. في لبنان يكرهونَ الاعترافَ بألمهم، يحاولونَ بشتَّى الطُّرق إظهارَ عكس ما يعانون، يحبُّونَ الحياةَ بشكلٍ يجعلهم يتناسون أكبر مصائبهم مقابل رحلةٍ إلى جبالِ الأرز أو إلى شواطئ البحر.

 

قدْ تجدُ الفقرَ في لبنان مثلما تجدهُ في سوريا وأكثر، لكنْ ما مِنْ ثمَّة لبنانيٍّ يرضخُ ويقبلُ واقعَهُ، اللّبنانيّ على استعدادٍ بأنْ يزيدَ واقعَهُ سوءاً كي يحيا، تجدهُ مقبلاً على استلافِ الأموالِ كي يشتري سيّارةً أو إلى ما شابه ذلك. عند الشَّعب السّوريّ لنْ تجدَ ذلك كثيراً، فالسّوريّون شعبٌ قانعٌ وصابرٌ نوعاً ما، يجورُ على نفسِهِ منتظراً فرجاً يحلُّ له كربتَهُ، يحاولُ أنْ يحسِّنَ مِنْ واقعِه -ما مِن شكٍّ- لكنَّه لَنْ يسعى أبداً أنْ يأخذَ قرضاً بنكيَّاً ليسافرَ في رحلةٍ -مثلاً- حين يكونُ عاطلاً عنِ العمل.

 

لقدْ أدركتُ أنَّ الغرورَ مهمٌّ أحياناً لكسبِ الثِّقةِ بالنَّفسِ، وأنَّ التَّظاهرَ بالثِّقافةِ قدْ يفتحُ البابَ لها، وأنَّ التَّواضعَ مطلوبٌ لحفظِ النَّفسِ منَ التَّكبُّرِ، وأنَّ معرفةَ الذَّاتِ ضروريّةٌ للسَّعيِ نحو الأفضل

شخصيّاً إنّني أحبُّ بنيةَ كلا الشّخصيّتين، في القناعةِ والصَّبر، وفي التَّمرّدِ وإهمال الألم. لا بدّ منَ الدَّمجِ بينهما كي نخرجَ بروحٍ راضيةٍ وسعيدةٍ. ليس في ذلك امتداحٌ لأحدهم ولا انتقاصٌ منهم، كما أنّني في مقالي هذا لا أستطيعُ اختصارَ الشَّعبين، إنّني أسردُ فقط ما كانَ واضحاً وجليّاً بالنِّسبةِ لي في ذلك الزّمن. في لبنان يغلبُ ظاهر الأمور باطنها، أكثر الأمثلةِ واقعيّةً أنَّ ما مِنْ لبنانيٍّ يتقبَّلُ الحديثَ بالعربيَّةِ فقط، لربَّما لَمْ يكنْ يوماً قَدْ قرأَ كتاباً، ولم يكنْ صاحب حرفةٍ أو دراسةٍ جامعيّةٍ، أو ثقافة عالية، إنّه بكلّ شيءٍ لا يحبِّذُ أنْ يدركَ نفسه، يحاولُ دائماً أنْ يعلو فوق ذاته، وأجدُ في كتابِ جبران خليل جبران (البدائع والطّرائف) نصّاً بعنوان (القشور واللّباب) كفيلاً بتوصيفِ كلّ شيء.

 

إنّ الصّورة الظّاهرة لمواطنٍ لبنانيّ تكونَ عادةً أكثر جرأةً وثقةً ممّا يقابلها منْ صورةٍ لمواطنٍ سوريٍّ، ربَّما يلعبُ اختلافُ الخلفيّاتِ والنَّشأة والثَّقافاتِ والظّروف دوراً مهمّاً في تكوينِ الشّخصيّتين، لكنَّ ما شهدته أنَّ اللّبنانيّ يميلُ للظُّهورِ وإبرازِ ما لديه أكثر منَ الإنسانِ السُّوريّ، سواءً كانَ أكثر ثقافةً أو أقلّ. ممّا يقابلُ الحال عند السّوريّين بالتَّواضع وتقديرِ الذَّات منَ هذه النَّاحية، وليس فيما سبَق مدحٌ أو ذمٌّ لكليهما.

 

في الواقعِ لقدْ أدركتُ أنَّ الغرورَ مهمٌّ أحياناً لكسبِ الثِّقةِ بالنَّفسِ، وأنَّ التَّظاهرَ بالثِّقافةِ قدْ يفتحُ البابَ لها، وأنَّ التَّواضعَ مطلوبٌ لحفظِ النَّفسِ منَ التَّكبُّرِ، وأنَّ معرفةَ الذَّاتِ ضروريّةٌ للسَّعيِ نحو الأفضل. من النّاحية الإنسانيّة ربّما منحَ هذا القَدْرُ مِنَ الثَّقةِ بالنَّفس اللّبنانيّين خطوةً ليعلوا السُّوريّين في أرضِ اللّجوء، كما أنَّ الجغرافيا غالباً ما تبثُّ الطَّمأنينةَ بنفوسِ قاطنيها. الأهمُّ أنْ يعي الجميع أنَّنا لسنا بصددِ مرحلةِ صراعِ ثقافاتٍ، ولا مرحلة البقاء للأقوى، وإلّا فسيخسرُ الجميع.

 

لقد عشتُ في لبنان قرابة ثلاث سنواتٍ، أدركتُ منْ خلالها ما يقفُ وراء كلّ تصرّفٍ، لقد أيقنتُ أنَّ البشرَ متشابهينَ إلى حدٍّ كبيرٍ، الأسماءُ والألقابُ والشِّعاراتُ والرَّاياتُ والأحزابُ هي الَّتي تمنحُ النَّاسَ مساوئَهم، مع أنَّها مِنْ صنعِهم، لكنّها دائماً ما تكونُ أكثر استمراريّةً ممَّنْ أوجدَها، فالأشياء نقيضُ البشر، ولا تزولُ بزوالِهم. أحياناً أشعرُ أنَّنا مجبرينَ على القبولِ بكلِّ التَّصنيفاتِ الَّتي نُعِتْنا بها، ربَّما ندافعُ عنْها ونموتُ لأجلِها، لكنْ لو كانَ بيدِنا القرارُ يومَها، لما اخترْنَا أبداً أنْ نُنْسَبَ لها، ولتمنينا صدقاً عدمَ وجودِها. وختاماً، خلال الأزماتِ الإنسانيَّةِ لا يُلامُ أحدٌ على فعلتِهِ، فالظَّالمُ بالنِّسبةِ لي يكونُ مظلوماً بالنِّسبةِ لنفسهِ، وعكسيَّة هذا التَّناسبِ جائزةٌ وحقيقيّةٌ أيضاً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.