شعار قسم مدونات

عبق الذكريات.. كيف نصنع لأنفسنا فسحة من النور؟

blog - 3ذكريات

على رسلك مهلا يا رياح، تحملين على أكفك ذكريات عابرة لأُناس قد مضوا وتركونا وحدنا في هذا الدرب الطويل، توقظين الحنين فينا وتشعلين نار الشوق ثم تقولين بردا وسلام! وأي سلام سيأتي حينما تضخ الذاكرة الأحداث تباعا ويؤرقنا الحنين وتعبث بنا دموعنا سهوا تتساقط. من عبق الذكريات نستقي جروحنا وآلامنا لنقوى على المضي وحدنا، من عبق الذكريات نرسم لنا خارطة طريق لنسير عليها في نهارنا وليلنا، من عبق الذكريات ننسج خيوط الأمل كي نكون أقوى. فذاك رحل عن الوطن مجبرً حتى يقتات قوت يومه ويبعث به لأهله أتراه سعيداً! وأي سعادة تلك توهبنا إياها الغربة؟!

  

أما ذاك فرجل تركته امرأته وحيدا مع طفلة أنجبتها في غرفة الولادة وهبتها الحياة وفارقتها هيَ! أتراه كلما نظر لابنته وعيناها الجميلتين يذكُرُها، أما تلك امرأة في غياهب الظلام يقطن زوجها أسيراً أو ربما هو ابنها وفلذة كبدها الذي غاب عنها في الأسر طويلا لأجل الوطن، وتلك فتاة تركها أبواها لخضم الحياة وحيدة تواجه الظلم والأسى وحدها، كل يحمل في ذاكرته عبقا من الذكريات لا ينضب أن يهدأ حتى يعود ليشعل الحنين، عابرون في هذه الدنيا لا مستقر لنا ولا نعيم.

 

لَكَم أحب دوما أن أعود لما كتبته في هذا الاقتباس "ليت جميع أحلامنا تصبح حقيقة لا وهما يتبدد في خيالنا، عادة يصيبنا في مرحلة الأحلام الألم والأمل والتضارب في المشاعر، نصل بتضارباتنا لحد لا نملك الخيار لتحديد ما إن كنا نريد أو لا نريد". الحياة بشعابها المتفرعة تفاجئنا في كل يوم بدرس لم نحسب له حساب في أولوياتنا، منها دروس قاسية تلجمنا حتى تخرس الأفواه ولا نستطيع بعدها بالتفوه. وعادة ما تكون دروساً عابرة منذ أن تنتهي لا نلقي لها بالاً، لكن أعظم تلك الدروس التي نتلقاها هي التي تلازمنا طيلة حياتنا وأوقاتنا عندها فقط يقع الخيار علينا نحن إما أن نسيرها أو تسيرنا ومن هنا البداية لكل شيء في هذا الدرب كلما بدأت الذكريات تطل رأسها لتعود من جديد عدت إلى هذا القبس الذي أحسبه بمثابة صمام لتجنب الانهيار. هكذا نحن بنو الإنسان منذ خُلقنا خُلق معنا وبين جنباتنا الأمن والخوف، القوة والضعف، الحزن والسعادة، اليأس والأمل. ولولا هذا لما كنا أحياء على هذه الأرض نشعر بمشاعر مختلفة وإلا فكانت وتيرة الحياة التي نحياها قاتلة، حتى الذكريات لولاها لماتت الكثير من مشاعرنا ولولاها لنسينا أنفسنا ربما، من نحن ولمن ننتمي ولأين نمضي في هذا الدرب.

undefined

منا من يعيش على ذكرياته ليقوى ومنا من يعود لعبقها كلما وجد نفسه وحيداً إلا من ذكرى تؤنسه وقت غياب الجمع، آه كم يؤرقنا الحنين وكم يعبث بنا حينما لا نجد سبيلا لاجتنابه وكم نحاول عبثا حينها كتم دموعنا وقهرنا، لكن هل الذكريات هي من تنجينا دوما من كل ما يحدث؟ لا بل أحياناً تكون الذكريات ذاك الربّان الذي ترك مقود سفينته وجعلها تغرق وسط الأمواج المتلاطمة. فكم من مرة سمعنا بأن فلانا مات حزنا فهل مات من فراغ، أم أن ذاك الحزن الذي كان مسيطراً هو ذاته عبق الذكريات التي عاش بها وعليها ولم يقوى على أن يتعايش مع الحياة بدونها أو حتى بأن تكون قوته حين ضعفه.

  

ماضون وحدنا في هذا الطريق، لا الذكريات تعيد لنا ما راح منّا ولا ستوهب لنا فرحا جديداً، ماضون في خضم هذه الحياة نستقي الفرح من أبسط الأمور علنا نقوى على السير في دروبنا. من عبق الذكريات ينبعث الحنين بالأشواق يملئُنا بالصبر إذا عجزنا، ويضخ فينا الحياة من جديد. أيها الماضون في تلك الدروب مهلاً لا زال للحديث بقية ولا زال للعبق خصوصيته وجماله، لا زلنا صغارا على النسيان وما عاد أن نفصل ماضينا عن حاضرنا وهنا يتحتم علينا أن ننسج من عبق ذكرياتنا أملاً وفسحة من النور كي نحيا بسلام آمنين مع أنفسنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.