شعار قسم مدونات

السادسة ودقيقة!

blogs امرأة

خرجت مسرعة من باب الكلية، أخذت تاكسي وبدأت أبكي بحسرة وخوف من الغد، استغرب السائق وبدأ يرمق تصرفاتي من المرآة، أخذت هاتفي وانا أتأمل عيناي ألمسهما بحذر وحب شديدين، أصور عيني اليسرى واليمنى وهما معا لأطمئن أنهما في المكان الصحيح، طلبت منه أن يضاعف السرعة لأقرب طبيب، المسكين كان رجلا، ساقني إلى طبيبة يعرف سمعتها جيدا، أوصلني إلى المكان. الساعة الآن السادسة وقت الإغلاق رفضت المستقبلة استقبالي رجوتها كطفل يخشى ضياع لعبته وكأنثى تهاب احتراق ضفيرتها السوداء، انظر إليها بعينين دامعتين قلت لها الآن فقط السادسة ودقيقة قالت وأن يكن، إنه وقت إغلاق العيادة.

  

عندما تساقطت دمعتين وأصبح صوتي ممزوج بحزن خانق قالت لي تفضلي لا تبكي شكرتها جدا و دخلت إلى طبيبة العيون، أخبرتها باكية أن حشرة لعينة دخلت عيني اليسرى وتحاصرني بالحراب وأني أشعر بألم فظيع واخشي ضياعها واحرم من رؤية الخطابات والكتب، لا أريد أن افقدها أرجوك ساعديني ولا تغرسيني في التراب، استغربت لتعلقي الرهيب بعيني و البكاء عليها دون سبب قامت بالفحوصات المعتادة و أخبرتني ان كل شيء على ما يرام يكفي فقط شراء هذه الأدوية .أعدت سؤالها مرة أخرى هل فعلا أنا بخير، قالت نعم و قلت لماذا كل هذا الألم أجابتني بابتسامة جميلة جدا، من المنطقي أن تشعري بألم إذا ما دخل شيء غريب عينك وخرج.

   

من المنطقي أن تشعري بألم إذا دخل شيء غريب عينك وخرج – كثيرة هي الأشياء التي تدخل وترحل دون أن تدري كم من الخسائر خلفت وراءها

خرجت بعدما قبلت المستقبلة وشكرتها لأنها سمحت لي بالدخول مع السادسة ودقيقة. أشرت إلى التاكسي وعدت أدراجي محملة بحكمة كونفوشيوسية، الطبيبة قالت من المنطقي الشعور بألم إذا ما دخل شيء ما عيني وخرج. نفس الألم انتابني ذات مرة عندما استوطن مجموعة من الأشخاص قفصي الصدري وأيسري ورحلوا دون إشعار بعدما بايعتهم، ونفسه انتابني عندما فشلت في اجتياز مباراة التوظيف وإتمام دراستي العليا ونفسه جدا انتابني عندما كنت اقضي أيام رمضان بعيدة عن أهلي وعندما كان خطي سيئا، بكيت اللحظات بشدة لكني لم أهرع إلى التاكسي لأني لا أعرف إي طبيب مختص في هذا الألم.

 

قضيت المساء وأنا اردد قول الطبيبة -من المنطقي أن تشعري بألم إذا دخل شيء غريب عينك وخرج – كثيرة هي الأشياء التي تدخل وترحل دون أن تدري كم من الخسائر خلفت وراءها، كهذه الحشرة اللعينة التي كلفتني في ساعة مصروف الأسبوع. الأشياء الأخرى أيضا كلفتني وقت واكتئاب وخوف وملل من الانتظار ونوم بالأيام وتفكير بالشهور. وفي النهاية أتطهر من أثارهم في أحشائي وأعود خالية من إثمهم إلى واقعي من جديد.

 

مجرد حشرات دخلت حياتي كساطور وخرجت، فطبيعي جدا أن اشعر بالأم وأنا أنظف مكان عبورهم وآثار خطواتهم في مخيلتي خصوصا أولئك الذين اختاروا مكانا قريبا جدا بين القلب والطحال، المهم كان فظيع جدا كولادة قيصرية دون بنج موضعي. ولكن طبيب الحياة طمأنني أن كل شيء على ما يرام يكفي فقط إتباع علاج معين. عندما كدت أن أفقد عيني لأن حشرة دخلتها، تذكرت اللحظات التي كدت فيها أن أفقد حياتي لأن أشخاص معينين دخلوا ورحلوا طواعية منها.

 

اكتسبت في النهاية حكمتين الأولى تتجلى في كون كل الراحلين عمداً من حياتي مجرد حشرات، يكفي فقط زيارة الطبيب لأخذ العلاج اللازم، قد يكون دواء وقد تكون إرادة قوية للنسيان، تؤخذ يوميا صباحا ومساء قبل كل وجبة. أما الثانية فيجب زيارة الطبيب في الوقت المناسب، ففي هذا البلد يجب احترام موعد مرضك جيدا فقد يكون الطبيب في عطلة أو أمام المسلخ الكبير أو على السرير أو تكون الساعة السادسة ودقيقة طبقا لساعة الوطن والضم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.