شعار قسم مدونات

الدين وتناقضات المجتمعات المعاصرة

blogs - مصلين

الدِّين أحد أهمّ مكونات شخصية الإنسان وتفكيره وسلوكه وتعامله مع نفسه ومع من حوله، وهو لغةً من الفِعل دَانَ أي اعتنق واعتقد بفكرٍ ما أو مذهبٍ ما وسار في رِكابه وعلى هداه. أمّا الدِّين في الاصطلاح فهو جملة المبادئ التي تدين بها أمّةٌ من الأُمم اعتقادًا أو عملًا، والدِّين في الاصطلاح الشّرعيّ الإسلاميّ هوً الاستسلام والتّسليم لله بالوحدانيّة وإفراده بالعبادة قولًا وفعلًا، واعتقادًا حسب ما جاء في شريعة النّبي محمد صلى الله عليه وسلم في العقائد والأحكام والآداب والتّشريعات والأوامر والنّواهي، وكلِّ أمور الحياة.

 

ربما لو بحثتُ مطولاً في موضوع مفهوم الدين فلن أتحصّل على أفضل من هذا التعريف المقتبس لفكرة جوهرية شغلت دائماً المحلّ الأول لاهتمام الانسان ولحاجاته الروحية، أما عن الإنسان فهو بطبيعته وحدة مجردة والمتفرّد بالوعي والإدراك والإرادة الذاتية، وهو القادر فيما لو أُعطي الحرية المطلقة في اتباع إرادته على أن يصل في موضوع الدين إلى معناه الحقيقي المجرد بغض النظر عن خياره، أي بغضّ النظر عن الدين الذي سيختاره.

من ضمن المؤثرات الخارجية، المجتمع والأبوين والبيئة التي ينشأ فيها هذا الإنسان، إذ أنه يجد نفسه وقد اختير له دين أبويه في البداية دون إرادته كما اختير اسمه

كل ما سبق طرحه هو من افتراض حالة مثالية مطلقة لحياة إنسان ما، لا تتحقق في الواقع، حيث أن كل إنسان يخضع عملياً إلى جملة معقدة ومختلفة التجاذبات من المؤثرات الخارجية النفسية والمادية، هذه المؤثرات والتي هي حتماً ليست من اختيار هذا الكائن البشري تلعب دوراً مهماً في كيفية تصور هذا الإنسان للدين ولاختياره لدين ما، وكذلك لكيفية فهمه وتعاطيه مع الدين الذي اختاره ومع تشريعاته وفرائضه ونواهيه وصولاً إلى الابتداع فيه، الابتداع فيه طبعاً بما يتلاءم مع هذه المؤثرات التي هي في الأساس كانت العامل الحاسم في وضع هذا الشخص لتصوره الخاص عن الدين بشكل عام وعن الدين الذي اتبعه خاصة.

سيكون حتماً من ضمن المؤثرات الخارجية هذه، المجتمع والأبوين والبيئة التي ينشأ فيها هذا الإنسان، إذ أنه يجد نفسه وقد اختير له دين أبويه في البداية دون إرادته كما اختير اسمه، ولسنا في هذا الصدد نتحدث عن حرية مطلقة لهذا الشخص للتفكير والاختيار بما يلائم قراره العقلي، فهذا يتبع إلى طبيعة العقل الجمعي لمجتمعه بكل ما يحتويه من افكار وتصورات عن الدين وغيره، وبعاداته وتقاليده ومقدار أهميتها والتزام الناس بها. أما عن إنسان ما يوصف بالعالم الثالث، أو النامي، والذي توسم به عادة وسوم الفقر والجهل وانتشار الخرافات وغياب الحياة السياسية وسيطرة مجموعة من "القدوات" فيه من رجال دين أو حكماء "ليس بمعنى المتمتعين بالحكمة طبعاً" أو حتى زعماء محليون كشيوخ العشائر في المجتمعات العشائرية مثلا وغير ذلك، فهذا الإنسان يمتلك فكرة مختلفة عن الدين.

 

نسينا أن نذكر أن الإنسان دائماً ما يبحث عن تحقيق ذاته وإشباع الشعور بالرضى عن النفس وتقديرها بأعلى مستوى ممكن، فكل قرارات الإنسان ومعتقداته وتصرفاته تصب في النهاية في مصلحة تحقيق ذاته ورضاه عنها. لكن مواطنا كالذي يعيش في بيئة اجتماعية تفرض عليه قيوداً سياسية وفكرية وتحدّ من مساحته في التعبير عن رأيه لن يجد ملجأً لتحقيق ذاته وإعلاء شأنها في نظره غير الدين، فتراه دائماً ما ينسب أي شيء يمر عليه إلى الدين ووجهة نظر الدين ورأيه فيه، وأقوال العلماء "رجال الدين" وغير ذلك مما يتعلق بالأمر، لكن هذا الاهتمام المبالغ فيه بالدين لا يعدو عن كونه ظاهراً، أي بمظهر خارجي يوحي بالتدين، وليس له علاقة بجوهر الدين وقوله الحقيقي في هذه المسألة أو تلك.

 

تُعزى تلك الظاهرة برأيي وفيما يتعلق بالدين الإسلامي على وجه التحديد إلى محاولة من هم في سدة الحكم في هكذا بلدان، طمس معالم بعض المرتكزات الأساسية في الدين الإسلامي وتغيير مقاصدها، كمفهوم الجهاد في سبيل الله وقَصرِه على الصهاينة، ومسائل الحكم وطاعة الحاكم وغيرها، وكذلك لمحاولة البلاط الحاكم أيضاً عبر مشايخه المعروفين لإعطاء طبعة مغايرة ومحددة عن بعض المفاهيم كعلاقة الرعية بولي الأمر ومفهوم الطاعة العمياء له وغير ذلك، وبتأثير لا يقل أهمية عن سابقه. أيضاً للعادات والتقاليد الاجتماعية القديمة المتوارثة عبر الأجيال، والتي تكون أقوى من الدين بكل الأحوال، فتقدير الذات له علاقة بنظرة الناس وتقييماتهم في مثل هذه المجتمعات، كمجتمعاتنا طبعاً. هنالك دور ثانوي تلعبه الحالة المادية المعيشية والمستوى التعليمي والثقافي للإنسان في وضع تصوراته عن الدين وتعامله معه. ويقول المفكر الفرنسي إيتييان دولابواسييه في كتاب العبودية الطوعية: (عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن ان نسميه "المواطن المستقر").

undefined

 

في أيامنا هذه يعيش المواطن المستقر في عالم خاص به وتنحصر اهتماماته في ثلاثة اشياء: هي الدين ولقمة العيش وكرة القدم. فالدين عند المواطن المستقر لا علاقة له بالحق والعدل، وإنما هو مجرد أداء للطقوس واستيفاء للشكل، لا ينصرف غالباً للسلوك، فالذين يمارسون بلا حرج الكذب والنفاق والرشوة، يحسون بالذنب فقط إذا فاتتهم إحدى الصلوات، وهذا المواطن لا يدافع عن دينه إلا إذا تأكد أنه لن يصيبه أذى من ذلك، فقد يستشيط غضباً ضد الدول التي تبيح زواج المثليين بحجة أن ذلك ضد إرادة الله، لكنه لا يفتح فمه بكلمة مهما بلغ عدد المعتقلين في بلاده ظلما وعدد الذين ماتوا من التعذيب، ويفعل الفاحشة والفساد في بلاده جهاراً، وبعد ذلك يحمد الله. لسنا هنا في صدد الحديث عن لقمة العيش وكرة القدم، لذا سأكتفي بهذا القدر من الاقتباس.

 

أعطى "دولابواسييه" الصورة الفعلية لكيفية تعاطي مَن أسماه "المواطن المستقر" مع الدين، ولكن بصورة أكثر حدّة، وأضيف إلى ما سبق ظاهرة مهمة جداً، وهي تقديس رجال الدين ورفعهم تقريباً إلى مرتبة النبوة، أو بتعبير أدق "عبادتهم"، ليس بمعنى تأدية طقوس العبادة لهم كالصلاة لهم والسجود بين يديهم وما شابه، ولكن بإنزال أقوالهم منزلة الأحاديث النبوية مثلاً، والامتثال لفتاواهم وتعميماتهم واجتهاداتهم، حتى لو كانت غير صحيحة "إذا لم تكن مخالفة للدين أصلاً"، أي تصنيمهم بكل معنى الكلمة، هذه النظرة لرجال الدين وللمشايخ أعطت المجال لكثير ممن لا علاقة لهم بالعلم الشرعي، لا من قريب ولا من بعيد وبحثاً عن التقدير في عيون الناس وتحقيق الرضى عن الذات إلى ارتداء عباءة الدين والسير في ركاب رجال الدين، وهذا طبعاً لن يتعدى تحقيق المظهر العام كلبس العباءة البيضاء والعمامة أمام الناس وإطالة اللحية والسواك والسُّبحة وما شابه.

 

كل تلك التصورات الخاطئة عن الدين والتعامل الظاهري فقط معه، سيفرض بالضرورة نمطاً اجتماعياً استثنائياً مليئاً بمن يعبدون الله ويسرقون عباد الله، ومن يسخّرون الدين في خدمة مصالحهم الشخصية إن كان على نحو فردي أو جماعي، وبمن يلبسون عباءات العلماء ويفتون بين الناس بغير علم، وكذلك بمن أطفأوا عقولهم واتبعوا هؤلاء الرويبضات، أي أنها ستفضي إلى مجتمع فاسد اخلاقياً، منكبٍّ على الشهوات والمصالح، يأكل الناس فيه بعضهم بعضاً، وكل ذلك باسم الدين والإله.

 

التأثير السلوكي الثاني لذلك والذي لا يقلّ فداحة عن سابقه هو اتجاه الكثير من الشباب والفتية وخاصة ممن واكبوا مفاتن الحضارة الغربية وأُعجبوا بثقافتها الفكرية "الراقية" إلى الإلحاد والإساءة للأديان وخصوصاً منها للإسلام، بعد أن قارنوا بين منطقية الفكر الغربي بمختلف التوجهات الدينية وغير الدينية، وبين الفكر الخرافي الجامد والمُبتَدع للدين في مجتمعاتهم كما علمهم إياه الدعاة للدين أو لما صوروه على أنه من الدين، وكما يرون الناس في هذه المجتمعات مِن أي منظور يتعاملون مع الدين وما هي حقيقة علاقتهم الفعلية بالدين وبالله، وهذا ما جعل الدين في متناول الإساءة، بينما يصبح مَن مُسحت بكرامته الأرض في البلاد أو ممثل غربي ما رمزاً للحداثة والتطور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.