شعار قسم مدونات

لا تمت قبل أن تكون ندا!

blogs فلسطين

إن كل القصص تبدأ في منتصف كل حلم، حينها تُصَيّرُ في وجهك حَبكةُ الحياة ورداءة المواقف، لكنك مجبر على الاستمرار، مضطر غير آثم، هذه اللحظة سيتحتّم عليك القرار، أن تمضي في ظلمة المكان ونور في قَرارتك، أو تبقى في مكانك المنير والظلمة تغشى صدرك. كلنا في هذا العالم نوضع في تجارب، بعضها خفيف على النفس آنيٌّ، وآخر سيهلكك وسيثقل عليك الطريق ويلاحقك وستبدأ في معظم الأحيان أنت بملاحقته، كلاهما سيصنعك، لكنّ التجارب قد تكون أنت من اخترتها أو هي من اختارتك. إحدى هذه التجارب تتلخص في طريقتك بالعيش هنا في فلسطين، وأنت مدرك أنك تعيش في غاب، كل شيء مشروع وستعايشه، لكنه محتوم بمقاومتك لكل هذا، وبالمدى الذي ستحتمله من هذه المقاومة، وإيمانك المطلق بقضيتك العادلة.

كل هذه الحقائق، أقصد التجارب مرهونة باختزالها، ليست بذاتها هي المعنى؛ وإنما ما تضعه فيك من قوة وصبر واستمرار هو الاختزال وهو المعنى والحقيقة. ببساطة ممتنعة: إنها تبدأ من بيتك وتنتهي بمكان آخر إما السجن أو السماء، وفي كلاهما حياة إن آمنت. القتل، النفيْ، الإبعاد، الاعتقال، الترهيب، الاحتجاز، التحقيق، الهدم، الاغتيال، الاجتياح، المداهمة، الحاجز، التصريح، الزنزانة، الاشتباك، العصافير وغيرها الكثير.

لقد أتمّت ريم 37 يوماً في التحقيق -هذا بالمناسبة فعلٌ وليس مكان-، المكان هو زنزانة -إنها المجهول باللفظ والمعنى والشعور- لا تتجاوز مساحتها المترين عرضاً والمتر طولاً، فيها الأكل والنوم والوقت الساكن المرعب، فيها البرودة والحرارة، فيها كل التناقضات التي آمنت بوجودها وعايشتها، لقد تقبلت فكرة ظهور الشيب في شعرها ونقصانها كيلوات عديدة من وزنها، لقد هُدّدت بعائلتها وأبنائها، وتمّ إخبارها بأن ابنتها بالسجن وتقبع في زنزانة قريبة من زنزانة الموت التي تقبع فيها مجبرة ومكرهة. في النهاية، انتهى الوقت الساكن وانتهت جرعة الموت، ورأت نوراً يعبرها عند قبلتها الأولى لطفلها.

الذي يعتاد رؤية ومواجهة الجيش، يدرك المعنى الحقيقي من أنهم جبناءٌ جداً، ويدرك أنهم حقيقيون وليسوا من الفضاء أو الخيال

عدنان، إنه الزوج الذي ظلّ متمسّكاً بالحياة، يقاوم الأفكار التي يثيرها الملأ من حوله، يحاججهم بالحقيقة والإيمان الحتميّ لأصل الأفكار. بطبيعة الحال أصبح مقعداً إثر جلطةٍ دماغيةٍ مباغتة أصابته أثناء نقله من زنزانة لزنزانة، لقد واجهه عشر ضباط في غرفة التحقيق لمقابلة زوجته، بالمناسبة زوجته هي ريم، لقد سخطوا ولم يتركوهم دقيقة واحدة عندما واجهها بكلمات حبّ أزعجت جمعاً قذر. كلّما حاربت من أجلك؛ أحببتك أكثر.

أمّا علا، قد كانت على وشك إنهاء مرحلتها الجامعية، لقد كان الظلم أقوى من الوقت، وباغتها بالاعتقال حين كانت تستدفئ في سريرها وحلمها، ربما كان الحلم ثقيلاً ولا يصلح في هذا المكان، كلّ الأمور هنا ليست محض اختيار، إنها قوة وظلم زائلان، اليوم تفتقدها شقيقتها وتقضي نهاراً لاختزال كل الحب والاشتياف والافتقاد كي يصل ذلك كلّه بثقله برسالة عبر مذياع مهترئ لقلب عُلا، وليته يصل!

كامل، يسكن مع زوجته وأطفاله بدفيء وحبّ، لقد جاءت نفس اللحظة التي سيق إليها أكثر من ثلث الشعب. بعد اعتقاله، تمّت مداهمة البيت مرة أخرى، فُزعت الزوجة لأنها تسكن لوحدها وقد أخبرتهم أنها بمفردها، لكنّ صوت كامل كان أقوى، لقد ناداها باسمها وقال: أنا هنا، بالفعل كان مع هذه الدوريّة من الجيش، لكنه كان مرتدياً لِباس الجيش والخوذة اللعينة التي تغطي رأسه، لم تتمالك نفسها، الزوج الذي خرج من البيت بزيّه، عاد مكبّلاً مرتدياً لباس الجيش! هذه الحركة يقوم بها الاحتلال بحجة أن يؤمّنَ على الأسير من أي عملية خارجية قد تتعرض لها هذه الدورية، كلّ هذه الأفعال كي تكسر الإرادة وتجرّ العائلة لموضع خوفٍ وانهيار.

هذا صراع حق وباطل، صراع ظلمٍ وعدل، صراع أرض وهويّة ومصير، من استمسك بوعد الله فقد استمسك بدينه ودنياه وآخرته
هذا صراع حق وباطل، صراع ظلمٍ وعدل، صراع أرض وهويّة ومصير، من استمسك بوعد الله فقد استمسك بدينه ودنياه وآخرته
 

الذي يعتاد رؤية ومواجهة الجيش، يدرك المعنى الحقيقي من أنهم جبناءٌ جداً، ويدرك أنهم حقيقيون وليسوا من الفضاء أو الخيال، يأكلون ويلبسون، يظلمون ويسرقون، يفعلون كل شيء، تنكسر القاعدة التي يزرعها الكثير من الأشخاص بأنهم ليسوا كسائر البشر. ستصبح مقاومتهم ألين وجائزة وغير خيالية. هم يخافون مثلاً من أن تضع يدك في جيبك، ومن أن تردّد آيات من القرآن، إنهم جبناء بالحقيقة، فقط لو آمنت بهذا.

في النهاية هذا صراع حق وباطل، صراع ظلمٍ وعدل، صراع أرض وهويّة ومصير، من استمسك بوعد الله فقد استمسك بدينه ودنياه وآخرته، ومن خاف وصمت فقد خاب وماتت روحه. وما أشبه اليوم بالأمس، وكلّ الكلام فارغ، وحدها التجربة التي تصنعك، والمواقف التي تبنيك، وحقك الذي يمكّنك، وبصيرتك التي تؤويك في الظلمة، فكن في منتصف المعركة ولا تختر الحياد، كن مؤمناً بنفسك وبقضيتك، تكن المحنة منحة لك، تعينك وتقويك.

كن باسطاً روحك على كفك لأجل كرامتك، ولا تكن خائناً لنفسك ووطنك، لا تكن جباناً، إنهم يموتون قبل أن يولدوا، نحن من نختار، ونحن من نصنع الغدّ، ونحن من نبني الوطن، ونحن اللذين خُيّرنا بأن نكون عبيداً أم أحراراً، فاختارنا الله أن نكون أحراراً، جُفّت الأقلام ورُفعت الصحف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.