شعار قسم مدونات

الجزائر وفرنسا.. العشق الممنوع!

BLOGS فرنسا و الجزائر

هل حقا يحب الشعب الجزائري فرنسا؟ سؤال لا أشك في أن غالبية الجزائريين سيجيبون عليه بالنفي. بل أكثر من ذلك سيعربون عن كرههم لهذا البلد الذي لا زال ينهب ثروات وطنهم ويتدخل في شؤونه السياسية رغبة منه في إطالة وتمديد عمر الاستعمار الاقتصادي والثقافي. ربما كان فوز فرنسا بكأس العالم 2018 القطرة التي أفاضت الكأس. العشق الممنوع بين الجزائر وفرنسا قضية أسالت الكثير من الحبر، كما أنها قضية تزاوجت فيها العواطف بالمصالح حتى أصبح الكثير منا لا يفرق بين الحب والحقد، وأي البلدين أولى بأن يٌحب وأيهما أولى بالحقد.

فرنسا كانت ولا تزال حلم الغالبية من الجزائريين، وأنا أولهم، لكن يجب ألا نغفل على أن الحلم أسمى من الواقع، وأن الإنسان مجبول فطريا على التطلع لحال أفضل وأرقى من الوضع القائم، وأن حلم الجزائريين بالعيش في فرنسا ليس حبا لفرنسا في ذاتها، وإنما رغبة في العيش الكريم وطمعا في حياة يملؤها الرفاه، وهروبا من القمع والاستبداد وسوء المعيشة. ثم أن العامة من الجزائريين لا يكرهون الجزائر، بل يكرهون الأوضاع المزرية التي يتجرعون مرارتها منذ الاستقلال، ويكرهون القادة والحكام الذين أذلوا البلاد والعباد، وباعوا الجزائر بأبخس الأثمان لأسيادهم الفرنسيين.

سعت فرنسا بكل ما أوتيت من قوة، إبان الاستعمار، إلى ما يسمى بسياسة الإدماج، أي محاولة محو الهوية الجزائرية وإذابة المجتمع الجزائري في المجتمع الفرنسي

لقد حارب أباءنا وأجدادنا الغزاة الفرنسيين ببسالة وشجاعة وهم على يقين أن خيار المقاومة المسلحة والاستشهاد في سبيل الوطن أغلى وأسمى من الاندماج في الشعب الفرنسي، والعيش تحت لواء فرنسا كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة. إلا أن تفرق القادة بعد الاستقلال وطمع بعضهم في التفرد بالقيادة، وحنكة ديغول ودهائه، جعل النخبة تحتار في الاختيار بين التشبث بمبدأ الروح الوطنية مع الغرق في "الميزيرية" داخل الوطن، أو التخلص من هذا الوهم واللحاق بركب الحضارة والتمدّن خارج الوطن.

وإذا كانت النخبة قد اختارت الحل الثاني فلا ملامة على دهماء الناس وعامتهم حين يفضلون العيش الكريم في ظل الحرية والمساواة والعدالة، في البلد العدو على الحرمان والاستبداد والطغيان في الوطن الأم. الهجرة نحور الغرب المتحضر هي ظاهرة ليست خاصة بالشعب الجزائري فقط، بل هي تطال كل الدول المتخلفة وتلك المحكومة من قبل أنظمة شمولية استبدادية، أين تنعدم كرامة المواطن وأين يصبح الحيز الجغرافي أشبه بالسجن منه إلى وطن.

ولقد كانت الحرب الباردة بين المعربين والفرونكوفونيين، طيلة عقود من الزمن، شاهدا على هذا التيه الذي عانى ولا زال يعاني منه الشعب الجزائري، فهل يكمن المشكل في اللغة الفرنسية أم في الدولة الفرنسية، أم في الجزائر الفرنسية؟ إذا كان مليون ونصف المليون من الشهداء ماتوا من أجل الحرية، فكيف يعقل أن يرضى ما يفوق الأربعين مليون باستعمار من نوع جديد، استعمار تتواطأ فيه أقلية حاكمة لتبيع الوطن وثروات الوطن لدولة لم يعد لها من بد، كي تتذكر مجدها الإمبراطوري، سوى السطو والهيمنة على الدول الأفريقية الضعيفة. فرنسا دولة ضعيفة أوروبيا قوية أفريقيا، لا زالت تستنجد بالأفارقة للخروج من أزماتها، ولا زال الأفارقة يصنعون مجدها وتألقها.

لا يرتمي الجزائريون في أحضان فرنسا إلا هروبا من المعاناة والظلم والاستبداد، فعملاء فرنسا لا زالوا يعملون، عن قصد أو عن جهالة، على تهجير الأدمغة والطاقات لتبقى الجزائر وثرواتها تحت الهيمنة الامبريالية
لا يرتمي الجزائريون في أحضان فرنسا إلا هروبا من المعاناة والظلم والاستبداد، فعملاء فرنسا لا زالوا يعملون، عن قصد أو عن جهالة، على تهجير الأدمغة والطاقات لتبقى الجزائر وثرواتها تحت الهيمنة الامبريالية

سعت فرنسا بكل ما أوتيت من قوة، إبان الاستعمار، إلى ما يسمى بسياسة الإدماج، أي محاولة محو الهوية الجزائرية وإذابة المجتمع الجزائري في المجتمع الفرنسي. وفي عزّ هذه السياسة حرصت فرنسا على ألا يمتلك الأهالي، أو ما أسمتهم (الأنديجان) صفة المواطنة، فهم حتى وإن طلبوا التجنيس فلن يكونوا سوى فرنسيين بدل مواطنين فرنسيين. ولو تأملنا قليلا لوجدنا أن جذور هذه السياسة تمتد إلى إيديولوجية المركزية الأوروبية، التي ترى أن أوروبا هي مركز الحضارات وأن باقي الأمم لا تعدو أن تكون مجرد مجتمعات متخلفة جينيا. ولقد حاولت الدراسات الأنثروبولوجية والإثنوغرافية الاستعمارية ترسيخ فكرة المركزية الأوروبية والاستعلاء العرقي.

إن ازدواجية المواقف لبعض الساسة والقادة الجزائريين تجاه فرنسا تجعلنا نستنتج أن لقصة الحب هذه دوافع، ففرنسا تعشق ثروات الجزائر لا الجزائر، والجزائريون يعشقون فرنسا المتحضرة لا فرنسا الاستعمارية. وإذا كان هولاند وبعده ماكرون قد استقبلا استقبال الأبطال أثناء زيارتهم للجزائر، فليس معنى هذا أن الشعب الجزائري يحب رؤساء فرنسا أو يذوب عشقا في بلدهم، بل هو سلوك ينم عن مقت الشعب الجزائري لقادته، وتعبيرا عن سخطه عنهم ليس إلا.

وإذا كان العقيد شعباني قد اغتيل بسبب رفضه إدماج عملاء فرنسا في الجيش الجزائري، فهذا يعني أن الجزائر مذ ذاك محكومة بأيادي فرنسية تأبى إلا أن تتقطع أوصال هذا العشق المفروض، وتعمل جاهدة على أن تجد له مسوغات تنعشه بها من حين لآخر.

لا يرتمي الجزائريون في أحضان فرنسا إلا هروبا من المعاناة والظلم والاستبداد، فعملاء فرنسا لا زالوا يعملون، عن قصد أو عن جهالة، على تهجير الأدمغة والطاقات لتبقى الجزائر وثرواتها تحت الهيمنة الامبريالية. وستبقى الجزائر وفرنسا تعيشان قصة تتصارع فيها انفعالات الحب والحقد كلما حركت رياح الحاضر الذكريات المؤلمة من ماضي لا زال يحكم المخيال الجماعي لشعب مضطهد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.