شعار قسم مدونات

عوامل وعقبات الاندماج في بلاد المهجر

blogs - الهجرة 1

من المعلوم أن أبرز سبب من أسباب الهجرة الجماعية هي الحروب والاضطرابات الأمنية بالمقام الأول. ومن ثمّ تبرز أسباب أخرى من قبيل الفقر، وسوء أوضاع البلد، وانعدام الحقوق الأساسية والحريات، أو الملاحقة الأمنية. ومن المعلوم أنه منذ العام 2011 وبلادنا العربية تشهد حركات هجرة نحو بلاد مهجر متعددة، على رأسها دول الاتحاد الأوروبي، وتركيا وكندا. اضطر معها المواطنون العرب إلى البحث عن بلد مستضيف ومن ثمّ محاولة بناء حياة جديدة تختلف صعوباتها من شخص إلى آخر ومن بلد لآخر.

 

وهنا تبرز الحاجة الماسة التي تقف تحديًّا أمام اللاجئ أو المهاجر كي يتأقلم مع وضع البلد الجديد، ليتطور التأقلم مع مرور الزمن وصعوبة ظروف العودة نحو الوطن الأصلي؛ إلى اندماج حقيقي مع المجتمع الجديد، ويتجسد هذا الاندماج في أتمّ صوره عند الطفل الصغير الذي لا يمكن التفريق بينه وبين المواطن في الكثير من الأحيان. وكي يكون المقال طريقًا لي إلى بحث أكاديمي حقيقي، فلن أتحدث إلا عن شيء أعرفه وعايشته وأعايشه أنا شخصيًّا من خلال تجربتي في بلاد المهجر.

 

هناك تجارب شخصية عايشها كثيرون من اللاجئين أو المهاجرين العرب تحديدًا نظرًا لموجات الهجرة الجماعية التي فرضت نفسها على كثير من مواطني الدول العربية على رأسها سوريا والعراق

حيث تناول الاندماج بشكل معمم يعتبر من الإجحاف بمكان، بل ربما لا أبالغ إن وصفته بالخطأ البحثي الذي يفتقد إلى منهج، فلكل بلد طبيعته التي تختلف عن بلد آخر، ولكل مهاجر وضعه الخاص الذي يختلف عن الآخر، ولا ننسى أن قضية الاندماج لا تتوقف على المهاجر فحسب كما يصور البعض، بل إن البلد المضيف له دور كبير في تسهيل هذه العملية؛ عندما نعلم هذا نفهم لماذا اللاجئون أو المهاجرون في السويد يتأقلمون بشكل أسرع مقارنة بأقرانهم اللاجئين في دول أوروبية أخرى، السويد حازت على المرتبة الأولى أوروبيًّا من حيث تسهيل عملية اندماج المهاجر الأجنبي فيها، وذلك للاهتمام الذي توليه تجاه اللاجئين ووضعها ضوابط من شأنها تسهيل عملية الاندماج على المهاجر، سواء اتفقنا مع هذه الضوابط أم اختلفنا.

 

لكني يمكنني قول أنّ طراز الحياة في بلد المهجر يختلف كثيرًا بين أن يكون بشكل فردي، أو بشكل أسري. الأول قادر ربما على التأقلم وحتى على الاندماج في أكثر الأحيان، بينما يصعب على الفرد الذي هاجر بأسرته كاملة أن يتأقلم سريعًا مع طبيعة البلد الجديد مهما كانت هناك عوامل مشتركة بين المهجر والوطن الأصلي.

 

عوامل الاندماج من قبل الدولة المهاجَر إليها:
 

خلال دراسة اجتماعية حول الاندماج في الدول الأوربية، أجراها كلّ من "المجلس البريطاني"، و"مجموعة سياسة الهجرة" وشملت 25 دولة أوروبية إضافة إلى كندا؛ توصلت إلى أنّ اندماج الأجانب لا يمكن أن يتوقف عليهم فحسب، بل لابد للدولة أن تقدّم الدعم لهذا الغرض، ومن أهم العوامل التي تسهل عملية الاندماج حسب الدراسة هي: تسهيل دخول الأجانب نحو سوق العمل، تسهيل عملية التجنيس، بل وحتى منحهم حق الانتخاب. التحلي بالجرأة عند مقارنة القوانين والتشريعات القانونية المتعلقة بسياسة الاندماج التي تقوم على أسس مشتركة.

فضلًا عمّا خلصت إليه الدراسة، هناك تجارب شخصية عايشها كثيرون من اللاجئين أو المهاجرين العرب تحديدًا نظرًا لموجات الهجرة الجماعية التي فرضت نفسها على كثير من مواطني الدول العربية على رأسها سوريا والعراق، هذه التجارب ساهمت في الكشف عن الدور الحقيقي المفترض أن تقوم به دول اللجوء أو الهجرة، تتمثل في: تقنين عمل الأجانب في سوق العمل من خلال إصدار إقامة أو إذن عمل يضمن حقه من الضياع أو الاحتيال، تسهيل عملية تعليم اللغة وتقديم فرص مشجعة لهذا، مساهمة الإعلام في نقل الصورة الحقيقية عن ظروف اللاجئين والابتعاد عن التعميم السلبي، بهدف وضع المواطن الأصلي تحت الصورة، تسهيل عملية التجنيس للمواطن الأجنبي الصالح.

 هذه المطالب ليست بالأمر السهل خاصة وأنك تطلبها من بلد استضافك، إلا أنك لو نظرت للنتائج التي ستتمخض عن هذه الخطوات سترى أن الأجنبي بدأ يتفاعل مع المجتمع الذي بدأ يتقبله، حتى يصل لدرجة يعتبر نفسه واحدًا من هذا المجتمع، وبما أن هذا البلد قد قبل أصلًا قدوم هذا الأجنبيّ فعلى إدارة هذا البلد أن لا تألوَ جهدًا في تقنين هذه الهجرة كي لا تصل لدرجة يصطدم فيها المواطن الأصلي والمهاجر ثم تصل الأمور لفوضى واضطرابات يصعب حلها.

عوامل الاندماج التي تقع على المهاجر:
 

نقصد بالمهاجر هنا هو الأجنبي الذي قصد بلدًا ما بنية الإقامة الدائمة هربًا من حرب في بلده أو اضطراب أمني أو ملاحقة سياسية، وليس المقصود من يتوجه لبلد ما بغرض السياحة أو الدراسة وما شابه، فليس من المطلوب منه أن يذوب مع ثقافة هذا البلد بحجة الاندماج والمرونة، بل المطلوب منه بالمقام الأول أن يقدم الصورة الحسنة عن وطنه الذي قدم منه.

إذن على هذا المهاجر الدائم الذي تقطعت به السبل في بلد المهجر، أن يعمل على جبهتين، الأولى: إعطاء صورة جيدة عن مفهوم الأجنبي أو اللاجئ، من حيث احترام قوانين البلد، ومعاملة الآخرين بلباقة واحترام، والابتعاد عن أي مخالفة أمنية او اصطدام مع الآخرين. والثانية: أن يخطط لعملية الاستقرار الحقيقي إن كان فعلًا قد نوى الاستيطان في هذا البلد، وهنا يكمن دور أهمية اللغة، والإحاطة بثقافة المجتمع الذي يعيش معه، وتأمين عمل يستطيع من خلاله مقاومة ظروف الغربة، لا أن يركز فقط على مساعدات الدولة، أيضًا عليه خلق خيوط تعارف سليمة بين أصدقائه في العمل مثلًا وإظهار مرونته وقابليته على أن يكون واحدًا منهم في مستقبل الأيام.

undefined

 
إشكالية الاندماج من قبل المهاجر مع المجتمع الجديد باختصار:
 

من أكثر المواضيع التي يتمّ النقاش حولها ضمن عملية الاندماج هي طبيعة تفاعل المهاجر مع المجتمع الجديد، حتى صرنا أمام فريقين؛ الأول: يعتمد مذهب الأصالة وعادة ما يكون متشدّدًا في نقاط كبيرة، ويشترط على المهاجر أن يحافظ على عاداته وتقاليده دون اكتراث بنظرة المجتمع الجديد، ولو كانت هذه التقاليد استفزازية بالنسبة لهم. والثاني: عصري لا يرى حرجًا في التماهي التام مع عادات بلد المهجر ومجتمعه بشكل كامل، بل ويدعو للانخراط ضمن هذه الخلية معتبرًا هذا شرطًا حقيقيًّا يمكنك من تحقيق هدف التجنس والاستقرار في مستقبل الأيام.

والحق يقال أنّ الفريقين قد فرطا أو ضيّقا واسعًا، بمعنى أنّ المهاجر لا يتعدى كونه إنسانًا قد نشأ في بلد لا يزال يحمل آثاره في ذاكرته الحزينة، ونشا في مجتمع لا تزال ملامحه حاضرة في أكثر المواقف، لذلك لا يمكن له أن يتماهى فجأة مع أي مجتمع مهما كان قريبًا لعقله وفكره، ولكن من جهة أخرى على هذا المهاجر أن يترك عاطفته قليلًا إن كان بالفعل يخطط للاستقرار والتأقلم مع هذا البلد الجديد بحلوه ومرّه، لذلك عليه أن يركز على النقاط الأساسية التي ذكرناها من حيث إتقان اللغة، وتقنين أموره، وصنع خطوط بينه وبين أفراد المجتمع الجديد، أما ما عدا ذلك من عادات خاصة يقوم بها هذا البلد وتخالف معتقده أو فكره أو طبيعة سلوكه فلا يمكن لأحد أن يجبره على الاندماج معها، وأتحدث هنا عن الدول التي تضمن حرية الأفراد وتحترمها. أتمنى حقيقة أن أصل إلى بحث أكاديمي جاد مطوّل حول عملية الاندماج التي هي باختصار تعني تنسيق عناصر الحياة الاجتماعية بين أفراد مختلفين لصنع كتلة واحدة تسعى لهدف واحد دون اعتبار اختلاف العرق أو اللون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.