شعار قسم مدونات

رابع الثانويّة العامة.. أنا ابن بائعة الأنابيب!

blogs رابع الثانوية العامة

في مِثل هذا الوقت من كلِّ عام تقع جٌموع الأٌسر المصرية وسْط حالاتٍ من القلق المتزايد، ونوبات التوتُّر الحاد، ومظاهر الضغط المتواصل، فيعيش طلاب الثانويّة عاماً دراسياً كاملاً يعتقدُ الكثير منهم أنَّه نهاية العالم، وآخر الطريق، ومعركةُ الحياةِ الفاصلة -على غير الحقيقة-، ومِن ثَمَّ تجد الجميع طلاباً كانوا أو أُسر يترقَّبون ذلك اليوم الموعود -يوم إعلان النتيجة-، فتجد حالات الانتحار لمجرد ضياع عشر درجات في مادة الكيمياء أو الرياضيات، وتسمع عن حالات التعذيب من الآباء لعدم حصول أبنائهم على المراكز الأولى بالترتيب، وتجد أخرين مٌتبلدي المشاعر يندٌبون ظروفهم المعيشية تارةً وضيق وقتهم في تحصيل المناهج الدراسية المعقدة تارةً أخرى، بينما أخرون يغرقون في نوباتٍ من البُكاء والعويل لضياع مستقبلٍ بعيدٍ لم يأتي بعد!

 

هكذا كانت أحوال طلاب الثانوية العامة على مَدى سنين، حتى ظهر أمامنا نموذج فريد، وشاب يحمل جِينات العظماء السابقين يٌدعى/ محمود محمد زكي بديوي – صاحب المركز الرابع مكرر على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة- فغيَّر المفاهيم، وبدَّل المقاييس، وعلَّم الجميع كيف يكون التفوق من التربية قبل التعليم وبالأخلاق قبل الأموال.

محمود محمد زكي بديوي -يتيم الأب الذي رحل رحمه الله- بعد مولده بعامين، تاركاً خلفه زوجة فاضلة واثنين من الإخوة الكرام، لتتولى قيادة رحلة الكفاح والتربية الأُم العظيمة/ نبيهة عبد الفتاح- التي اختارت أن تعمل بيديها لتُطعم الصغار من كسبٍ حلال، فامتهنت بيعَ الأنابيب وتوزيعها على البيوت، تلك المهنة التي يهربُ منها الكثير من الرجال، ولكن أنَّىَ لبعض الرجال وأشباههم أن يكونوا مِثلها.

 

محمود زكي بديوي ومريم سعيد فتح الباب- الإثنين الذين صفعوا المجتمع والمراهقين على وجوههم بقسوة، عندما أثبتوا لأصحاب الألقاب الفارغة والشُّهرة المصطنعة، أنَّهم فخُورين بأهاليهم الشرفاء

الحاجة نبيهة.. تلك الأم المثالية على الحقيقة التي حملت أمانة أبنائها الصغار، فأتمت الرسالة على أكمل وجه، حتى صار من بين غرس يديها الكريمتين من يُشار إليه بالبنان ك- محمود- ذلك الفتى الذي طُلِب منه أثناء التكريم أن يٌعرِّف بنفسه.. فكان التعريف بكل عزةٍ وكبرياء: "أنا ابن بائعة الأنابيب". فيا لعَظمة الغرس، ويا لطِيب التربية، ويا لبديع صناعتك أيتُها السيدة العظيمة.

ومن هنا بدأت الحكاية.. حكاية محمود ابن -بائعة الأنابيب- ذلك الصبيّ الذي نشأ في أسرة وإن كانت فقيرة اليدّ إلا أنَّها غنيَّة القلب والخٌلق، فمنذ مراحل عُمره الأولى وهو يُبصِرُ والدته كل صباح تخرج تجول في الشوارع والطُرقات، وتتنقل بين البيوت والعمارات، تحمل بين يديها عدد من الاسطوانات لتوزيعها، ثم تعود في المساء وقد أنهَك بدنَها الجُهد والتَّعب، وأخذت من صِحتها السلالمُ والدَّرج، لكنَّها في نفس الوقت تدخل عليهم ببسماتٍ صافيات، وعيونٍ مستبشرات كلُها أمل في أن يٌصبح الصبيٌ يوماً لها جداراً تستند عليه من تقلبات الدنيا وغوادر الأيام وقد كان.

كان هذا المشهد اليومي المتكرر بمثابة الوقود الذي يُحرك قلبَ الصبي وعقله بل وكلّ كيانه، فرسم الخطة، وحدد الهدف، وانطلق في طريقه الصعب بعزمٍ وإصرار، وجدٍّ واجتهاد، وفخرٍ واعتزاز، لم يستشعر النَّقص عن أقرانه يوماً، ولم يشتكي ضِيق العيش ساعةً من نهار، ولم يتألل بوضعه الاجتماعي، أو يتعذر بقِلَّة اليدّ ولكن مهلاً..! أنَّىَ لحافظ القرآن أن يفعل ذلك فمحمود حفظ القرآن الكريم كاملاً ليُلبس السيدة العظيمة -بائعة الأنابيب- تاج الكرامة يوم القيامة أو هكذا قال محمود في أول حوار له بعد النتيجة.

كذلك يُخبرنا محمود الذي لم يكن لديه هاتف ذكي، ولا حساب في فيس بوك أو تويتر، ولا غرفة مكيفة بها مكتب وكرسي مُتحرك يساعد على الاسترخاء، بل كان لديه ما هو أغلى من ذلك وأثمن، كان يمتلك أُماً ليست ككُلِّ الأمهات، يقول عنها محمود: "أمي هي التي صنعتني، كانت دوماً تروينا بالحنان وتُطعمنا بالحلال". وما أجمل الثَّمر يا أخي إذا ما رُوِيَ بالحنان وكبُر بالحلال، وإلا فأخبرني بربك ما تصنع الأموال في نَبتٍ نشأ في بيتٍ تكون فيه الأُم دوماً مٌنشغلة والوالد خارج نِطاق الخدمة.

محمود ذلك الفتى المتفوق المعتز بأهله منذ نعومة أظفاره، والذي نجحت فيه تربية أُمه بائعة الأنابيب، فلم تؤثر فيه طبقية بغيضة يعيشها مجتمع فقير جاهل مريض، ذلك المجتمع الذي يُصرِّح فيه وزير العدل بأنَّ" ابن الزبال مينفعش يكون قاضي". ليأتي محمود ابن –العظيمة بائعة الأنابيب- ليقول لمثل هذا ولكل من يعانون من مثل هذا المرض -الذي أُسميه "نقص الهرمون الإنساني"-، أنَّ ابن بائعة الأنابيب يستطيع أن يكون وزيراً أو طبيباً أو عالماً، يفتخر به كل من يسمع عنه، وأنَّه وأقرانه أفضل من مائة وزير من مثل هؤلاء الحمقى، الذين يحملون هذا العفن الطبقي في عقولهم فضلاً عن بيوتهم، ولو كانوا وزراء أو رؤساء. بالإضافة إلى أنَّ مثل هؤلاء يقيناً يعيشون في غوغائية مفرطة في حياتهم الشخصية.

محمود بديوي ومن قبله مريم بنت عم سعيد فتح الباب -حارس العقار- صاحبة المركز الأول في العام الماضي بالثانوية العامة، تلك الفتاة التي جعلت من مهنة "البوّاب" محلّ فخرٍ قد تكون نموذجاً يقضي على الكثير من العُقَد لدى أبناء الطبقة المتواضعة، أو من آباؤهم يمتهنون مهناً يُنظَر إليها بطبقيّةٍ ذميمة، ليسيروا على خُطى مريم ومحمود الذين أصبحوا من الأوائل. على عكس العديد من أبناء وزراء ومسؤولين ولصوص رسبوا أو جاءوا بعلاماتٍ ضعيفة بالكاد تكاد تُدخل أحدهم إحدى الكلِّيات العسكرية ليتخرجوا منها كأبائِهم لصوص الغد وقاتلي المستقبل.

محمود زكي بديوي ومريم سعيد فتح الباب- الإثنين الذين صفعوا المجتمع والمراهقين على وجوههم بقسوة، عندما أثبتوا لأصحاب الألقاب الفارغة والشُّهرة المصطنعة، أنَّهم فخُورين بأهاليهم الشرفاء، وأنَّ حياتهم -على تواضعها- أفضل بكثير من غيرهم من أبناء أصحاب الفخامة والسمو سارقي قوت البلد وأذنابهم من عصابة المٌنتفعين، وليس عندهم ظروف خاصة تٌقلل من شأنهم، وأنَّهم راضون تمام الرضا وفخورين حد السماء بتلك الأم العظيمة وهذا الشريف حارس العقار. بهذه الكلمات الراضية، والمشاعر الصادقة، كانت الصفعة على وجه كل من هو في نفس عُمرهم ومراحلهم التعليمية وما زال يتألل بوضعه المادي أو ممتعض من ظرفه الاجتماعي، ويجعل منه مدعاةً للتقصير وشماعة للهروب من الجد والاجتهاد وتحقيق التفوق المطلوب.

وأخيراً رسالتي لمحمود بديوي ولكل متفوق وناجح.. مباركٌ جٌهدَكم، وبارك الله في أيادي والديكم الذين تعهدوكم بالرعاية والعناية، تقبل الله منهم، اجعلوهم تاج رؤوسكم وفخر اعتزازكم. استمروا يا طلائع المستقبل وكونوا أنتم النموذج الجديد الذي يُثبتُ لنا كل يوم إنّ فيها حاجه حلوة، ولكن مع ذلك لا تندفعوا وتخسروا ما قدمتم لنا من نموذج برفض أي فرصة تُنجيكم من التعليم في وطن ضايع، وإلا ستكونون عليها من النَّادمين، وأخيراً تيقنوا يا صنائع اليد الكريمة أنَّه لا خير في تكريم يأتي إليكم من مُنقلبٍ خائن أو أحد أذنابه، فإياكم ثم إياكم أن يُتاجروا بحسابكم، أو يأكلوا من رصيدكم في قلوب الناس، بتصويرة رخيصة بجوار سفاح أو تكريم زهيد بجلوس أحدكم في صفوف المنقلبين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.