شعار قسم مدونات

لا يوجد دواء.. نصرف لكم سلام وطني؟!

blogs المستشفيات المصرية

يصحو المريض السبعيني مفزوعا من نومه، على صوت السلام الوطني ترتج به غرفته في العناية المركزة، حالته الخطيرة تزداد سوءاً مع ذلك الإزعاج اليومي بأمر من الحكومة الرشيدة، بينما ذاك الطفل المبتسر، تصرخ أجهزة (المونيتور) الخاصة به معلنة عن مشكلة جسيمة تنطق بها مؤشراته الحيوية، بينما لم ينتبه له أحد من الطاقم الطبي، لتزامن ذلك مع ارتفاع صوت السلام الوطني ثم انشغال الأطباء لاحقا بوقوفهم في طابور الصباح الهزلي وترديدهم قَسَم الأطباء.

 

لافتة (رجاء الهدوء لراحة المرضى) لم يعد لها معنى في مستشفيات المصريين، تلك الحالات وعشرات غيرها، وقائع فعلية رواها أطباء مصريون وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، مهزلة حقيقية تكمل المشهد العبثي في مصر المنكوبة منذ العام 2013. تنفجر منتديات المصريين ومواقع تواصلهم بسخرية لاذعة من قرار وزيرة الصحة في حكومة الانقلاب بإذاعة السلام الوطني وقَسَم الأطباء يوميا بمستشفيات الدولة، لم تهتم الأخيرة بالأحوال الكارثية لوزارتها، بالوضع المزري للمستشفيات الحكومية في مصر، والذي يجعلها أشبه بمراحيض عامة تفتقر لأبسط قواعد البيئة الصحية، ناهيك عن افتقارها شبه الكامل للتجهيزات والأدوات والطواقم الطبية.

لم تعترض الوزيرة على التخفيض المتعمد والكارثي لميزانية الصحة في مصر للسنة الثالثة على التوالي وبالمخالفة للدستور، فبالرغم من ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، بحسب الموازنة المقدمة من الحكومة للبرلمان، إلى 5.22 تريليونات جنيه (296 مليار دولار)، غير أن مخصصات وزارة الصحة، ومديريات الشؤون الصحية بالمحافظات، والمستشفيات العامة، مجتمعة، اقتصرت على 61.81 مليار جنيه (3.5 مليارات دولار تقريبا) وهي أقل من نصف ما نص عليه الدستور المصري الذي حدد حدها الأدنى بـ 3 في المئة من الناتج القومي الإجمالي بنحو 156 مليار جنيه. وحتى تلك النسبة الدستورية التي لم تصل إليها مطلقا موازنة الصحة في مصر منذ الانقلاب وإلى الآن، هي أقل بكثير من النسب العالمية التي تتراوح من 10 إلى 15 في المئة من الميزانية العامة للدول.

هناك سوء إدارة لموارد الدولة، حيث يتم صرف المليارات على الوزارات المنتجة كالكهرباء والبترول، كمكافئات ومنح وأرباح، في حين لا تحظى وزارات استراتيجية كالصحة والتعليم بالحد الأدنى من هذا

وبعد خصم حوالي 16 مليار جنيه مخصصة للمياه والصرف الصحي ومضافة لميزانية وزارة الصحة (وهو نوع من التحايل تتبعه الحكومة)، يصبح نصيب المواطن المصري سنويا من الرعاية الصحية حوالي 445 جنيها، أو ما يعادل (37 جنيه شهريا) أو (25 دولارا تقريبا كل عام) وهو رقم هزلي وعجيب مقارنة بالنسب الدولية، فمن المفترض ألَّا يقل نصيب الفرد الواحد عن 500 دولار للحصول على الحد الأدنى من الرعاية الطبية الآدمية، وهناك دول عربية يصل نصيب الفرد فيها إلى ألفي دولار، كما هو الحال في قطر والإمارات.

والأدهى أنه تم تخفيض دعم التأمين الصحي والأدوية من 3.8 مليارات جنيه في موازنة (2017/2018) إلى 3.3 مليارات جنيه في الموازنة الجديدة بنسبة خفض بلغت 13 في المئة، على الرغم من الارتفاعات المتوالية في أسعار الأدوية، وكأنه اتجاه حكومي مقصود للإضرار بالمواطنين. وفي حوار تليفزيوني مع وزير الصحة السابق الدكتور أحمد عماد الدين راضي، ببرنامج (كل يوم) المذاع على فضائية (on e) في فبراير العام الجاري، اعترف فيه: أن التأمين الصحي في مصر متهالك تمامًا ولا يقدم رعاية صحية للمواطنين، والسبب أنه يغطي 55 مليون مصري، بينما نصيب الفرد به يبلغ 187 جنيهًا في السنة، موضحًا أن هذا المبلغ لا يكفي ثمن (روشتة) دواء في زيارة واحدة للمريض.

(للمفارقة، حكومة الانقلاب أعلنت هذا العام أن قيمة الضريبة المستهدفة من السجائر والتبغ ستصل إلى 58.5 مليار جنيه، وهو ما يعادل تقريبا كامل ما تم انفاقه على صحة المصريين). والمتابع لتقارير الحكومة المالية، يلاحظ سوء إدارة لموارد الدولة بشكل لا يمكن وصفه سوى بالفساد الشديد، حيث يتم صرف المليارات على الوزارات المنتجة كالكهرباء والبترول، كمكافئات ومنح وأرباح، في حين لا تحظى وزارات استراتيجية كالصحة والتعليم بالحد الأدنى من هذا.

وفي الوقت الذي يتم فيه إصدار قرارات جمهورية دورية بزيادات محمومة في رواتب العاملين بالجيش والشرطة والهيئات القضائية، للدرجة التي صُدم معها المصريون في يونيو هذا العام، من خبر اقرار الزيادة التاسعة بمعاشات العسكريين منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، (بمعدل زيادتان تقريبا كل عام)، ناهيك عن ارتفاع معدلات الإنفاق "الجنونية" على مشروعات اقتصادية غير ملحة أو ذات نفع على المواطن في الوقت الحالي، كالعاصمة الإدارية ومشروع المليون ونصف فدان وقناة السويس الجديدة وتنمية جبل الحلال، يقابل هذا كله، خفض مستمر لميزانية وزارات بالغة الخطورة كالصحة والتعليم والبحث العلمي، بالتزامن مع ارتفاع غير مسبوق في الضرائب التي تحصلها الدولة من المواطنين، دون حصولهم على خدمات تُذكر.

وتنعكس بالطبع نتائج هذا الخفض المستمر لميزانية وزارة الصحة في الموازنة العامة، بشكل مباشر على خدمات الرعاية الصحية، فالأدوية التقليدية كالمسكنات ومخفضات الحرارة ونزلات البرد والضغط والسكر، لا تكفى سوى لـ 10 إلى 15 في المئة تقريبا من المترددين على المستشفيات، وعندما لا يجد الطبيب الدواء المناسب في صيدلة المستشفيات، يطلب من المريض شرائه، وللمفارقة العجيبة ، فإن أمر كهذا أُجبِرَ عليه الطبيب ولا يملك فيه حيلة، يعتبر مخالفة قانونية يتم تحويله فيها للنيابة الإدارية، كما حدث مع أطباء مستشفى الزقازيق العام، بخلاف وضع الطبيب من الأساس في مواجهة مباشرة مع غضب المرضى الذين لا يجدون في مستشفيات بلدهم التي يدفعون ضرائبها كاملة، لا علاجا ولا رعاية ولا حتى سريرا ينامون عليه، وهو ما تجلى في حوادث الاعتداءات المتكررة في الفترة الأخيرة على أطباء مستشفيات القطاع العام.

(تشير الإحصائيات الحكومية أن متوسط عدد الأسرة في مصر هو 22 سريرا لكل 1000 نسمة ، بينما تقضي المعايير الدولية بوجود 93 سريرا على الأقل لكل 1000 نسمة). وتأبى مفارقات مصر المنكوبة أن تتوقف عند هذا الحد، حيث تضم ميزانية وزارة الصحة، سلسلة من التناقضات العجيبة والغريبة، حسبما أكدت نقابة الأطباء، أبرزها تخصيص نحو 30 مليار جنيه لمستشفيات الجيش والشرطة، والتي تخدم نحو 500 ألف ضابط، في حين أن باقي الميزانية، والذي يقدر بنحو 24 مليار، هو لباقي المنظومة التي تخدم 90 مليون مصري.

تتحدث الوزيرة عن دعم الانتماء للبلاد، وتتصور بعقلها المحدود، وتفكيرها القاصر، أن الانتماء لدى المواطن المصري سيتحقق بسماعه أنشودة، في مستشفى متهالك
تتحدث الوزيرة عن دعم الانتماء للبلاد، وتتصور بعقلها المحدود، وتفكيرها القاصر، أن الانتماء لدى المواطن المصري سيتحقق بسماعه أنشودة، في مستشفى متهالك
 

وهو ما يعني أن رقم ال25 دولار للمواطن هو أيضا غير حقيقي، لأنه يوجد لدينا نوعان من المواطنين، الفروق في الإنفاق على صحة كل منهما، كما بين السماء والأرض. فما تنفقه الحكومة على كل ضابط في الجيش أو حتى أمين شرطة بالإعدادية من خلال دعم مستشفيات هؤلاء، يعادل 60 ألف جنيه سنويا، بينما ما يتم انفاقه على المواطن المصري العادي (سواء كان معلما أو طبيبا أو مهندسا أو حرفيا أو حتى أستاذا جامعيا) يعادل 266 جنيه تقريبا، أي أن كل عسكري في الجيش أو الشرطة يعادل عند الحكومة 225 من المواطنين المدنيين، وهو التجسيد الفج والصادم لدولة الأسياد والعبيد.

تتحدث الوزيرة عن دعم الانتماء للبلاد، وتتصور بعقلها المحدود، وتفكيرها القاصر، أن الانتماء لدى المواطن المصري سيتحقق بسماعه أنشودة، في مستشفى متهالك، يفتقر لكل مقومات الرعاية الآدمية، ولا يلقى فيها سوى المعاملة المهينة، والحرمان من أبسط حقوقه في العلاج والدواء، وينظر إليه على أنه عبد في بلدٍ أسياده من العسكريين.

تسير الوزيرة (النابغة) على خطى من عيَّنَها، وتحت شعار (هتاكلوا مصر يعني؟!) يبقى الوطن بخيراته وثرواته ومزاياه وعطاياه حكراً على هذا النظام العسكري وحاشيته وحكومته وشرطته وقضائه ومعاونيه، والوطنية لكم أيها المواطنون. فمستشفيات مصر، قد لا تجد بها سرير ولا طبيب ولا دواء ولا معاملة آدمية، لكن ستجد بها سلام وطني.. حلال عليكم يا مصريين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.