شعار قسم مدونات

حبسُ المدين.. قانونٌ ينتهكُ القانُون!

blogs سجن

في الأردُن، لا تَستَبعد أن يأتي عليكَ لحظة تكونُ تسيرُ بسيارتكَ في ساعة متأخرةٍ منَ اللّيل، فيتمُ استيقافكَ من قبلِ دورياتِ الشرطةِ المنتشرة، وهذا إجراءٌ روتينيٌ جِداً، لكنَّ المفاجأة هي أن يخبركَ الشرطي بعد أن يضع رقمك الوطني على جهازه، بأنكَ مطلوبٌ لدائرةِ التنفيذِ القضائي، وبحقكِ طلبات قضائية، لتتحولَ بلحظة نظرةُ المجتمعِ إليك، من مواطن شريف، إلى فارِ من وجهِ العدالة!

هذا السيناريو ليس من وحي الخيال، بل هي قصصٌ حقيقية حدثت مع آلاف الأردنيين الذينَ تفاجأوا بوجودِ طلباتٍ قضائية مالية بحقهم دونَ حتّى أن يعلموا، فإما أن يكون الشخص محكوماً عليه في دعوى قضائية، هو لا يعلمُ أنها مقامة ضدهُ أصلاً، حيث يفيد التبليغ بعدم العثور عليه ومن ثم يبلغ بالنشر، وبالنتيجة يصدرُ بحقهِ حكماً بمثابة الوجاهي-حكم غيابي- ويصبح محكوماً عليهِ في قضية هو لا يعلم أنها مقامةٌ ضدهُ أصلاً، ويُتصورُ أيضاً هذا الأمر في حالةِ التجارِ المتعاملينِ بالشيكات والأوراقِ التِجارية، كما يُتصورُ في حالةِ كفالةِ أحد الأشخاص، وقد حدث فعلاً أن تم التعميمُ على شخصٍ بسببِ كفالتهِ لصديقهِ على اشتراك شهري لخط هاتف!

كل هذه الأمور تحدُث، بسببِ وجودِ نصٍ في قانون التنفيذِ الأردني يُجيزُ للدائِن حبسَ مدينهِ تسعينَ يوماً كُل سنة عن كلِ دينٍ طالما لم يسدد الدين أو يعرض تسويةً مناسبة خلال مدةِ الإخطارِ التنفيذي، ومهما كانَت قيمةُ الدين، ولم يفرق هذا النص بين المدين الذي لا يريدُ السداد، والمدينِ العاجزِ عن السداد، فالمدينُ العاجِز عن السداد مهما مارستَ من الضُغوطات ِعليه، لن يؤثر ذلك فيه بسببِ عجزِه، فهو في كل الأحوالِ لا يملكُ أية أموالٍ أو موجودات يمكِن التنفيذ عليها، فما هي جدوى حبسِ المدين إذا كان لا يملك أي دخلٍ أو موجوداتٍ يمكنُ الحجز عليها؟ وماذا يستفيدُ الدائن من حبس المدين في هذه الحالة؟ فالمدينُ العاجز تُسلبُ منه حريته والدائن لا يستوفي حقه.

لا داعي للحديثِ عن مدى الأثرِ النفسي السلبي على المدين الذي يودعُ السجنِ بسبب التزاماته المالية، ولا عن الأثر السلبي الذي يلحق باعتباره ومركزه الاجتماعية، حيثُ يُعاملُ من العامة وكأنه مُجرمٌ خطير

وفي ذاتِ الوقت الذي يوجدُ فيه النص الذي يجيزُ للدائِن حبس مدينه، فإن الحكومةُ الأردنية مصادقةٌ على العهدِ الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي قضت المادة (11) منه بعدمِ جوازِ حبس أي إنسانٍ بسببِ عجزهِ عن أداءِ التزاماته ِالتعاقدية، وحيث ُأن خلاصةَ ما توصلّ إليهِ الفقهِ الأردني بكافةِ آراءهِ واجتهاداته هو سمو نصوصِ المعاهداتِ الدولية على القانون الداخلي، فإن النصّ الوارد في قانون التنفيذ يخالف ما هو أسمى منه، وهو النصُ الواردُ في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي يمنعُ عن أداء التزاماته المالية، وهي ذات المادة التي استند إليها رئيسُ أحد دوائرِ التنفيذ ِفي الأردن، حين رفض طلب محامي المحكوم لهُ الدائن بحبسِ المحكومِ عليه المدين، حيث رفضَ طلب حبسِ المدين بسبب ثبوت عجزهِ عن السداد، واستند إلى نص المادة (11) الذي يمنعُ حبس الإنسان بسبب عجزهِ عن أداءِ التزاماته التعاقدية، فلا نفهم لماذا يبقى نص يناقضُ التزامات الأردنِّ الدولية، وينتهكُ كافةَ مبادئ ومفاهيم حقوق الإنسان، حيث يسلب الإنسان حريتهُ بسببِ دينٍ مالي، فضلاً عن أنه لا ينفعُ الدائن أبداً ولا يرد له حقهُ إذا كان المدين عاجزاً عن السداد!

وفي حين تتحدثُ الدولة عن التكلفةِ العاليةِ لنُزلاءِ مراكز ِالإصلاحِ والتأهيل من حيثِ المأكلِ والمشرب والإقامة، والبدءِ في محاولةِ التخفيفِ من العقوباتِ السالبةِ للحرية، وهو ما شهدناهُ على أرضِ الواقِع من تطبيقِ العقوباتِ المجتمعية بدل العقوبات السالبةِ للحرية في جرائم معينة، فمثلاً يقومُ المحكومُ بجريمةٍ معينةٍ بأعمالِ النفعِ العام أثناء قضاءهِ محكوميته ِدون سلبِ حريتهِ وضمن ضوابط معينة، دون حبسه، ففي حينِ تبني هذا الاتجاه والحد من العقوبات السالبةِ للحرية في الأمور الجزائية، نرى تفشي هذه العقوباتِ في المسائلِ المدنية، وخير دليلٍ هو حبس الإنسانِ من أجلِ ديونهِ المالية، فهل يُعقلُ إدانةُ الإنسان وإيقاع عقوبة جزائية بحقهِ وهي الحبس، من أجل عدم التزامه بدين مدني؟!

ولا داعي للحديثِ عن مدى الأثرِ النفسي السلبي على المدين الذي يودعُ السجنِ بسبب التزاماته المالية، ولا عن الأثر السلبي الذي يلحق باعتباره ومركزه الاجتماعية، حيثُ يُعاملُ من العامة وكأنه مُجرمٌ خطير، وهو الذي لم يرتكب أي فعلٍ يستوجِبُ أية عقوبة جزائية، فضلاً عن تحوُل مفهوم حبس المدينِ إلى أداة للانتقام من المدين العاجِز، وأداة محمية بنصوص القانون للبطشِ بالبُسطاءُ من المدينين من قِبل الشركات والمُنشآت المالية العِملاقة، وكل هذه المُعطيات تقوُدنا إلى القول بأن حبس المدين أصبح أصلاً واسِعاً بدل أن يكونَ استثناء ضيقاً، ورغم أنه واردٌ ضمن نص قانوني، إلا أننا لا نستطيع أن نصفهُ إلا بكونه قنونٌ ينتهِكُ القانون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.