شعار قسم مدونات

وطنٌ من ورق.. رحلة البحث عن وطن بديل

blogs -127-3-main

كلّ الذين كتبوا عن الوطن أحبّوه جميعاً، أحبوه كلٌّ على طريقته، لا أحد كان يملك وصفة معينة أو طريقة محددة في حبّ الأوطان، لذلك كل من يخطبُ اليوم باسم الوطن ويحاضر بالوكالة عن الأرض والبلاد، كلّ الذين يوزعون صكوك الوطنية على الآخرين اليوم ليسوا إلاّ لصوص الوطن الحقيقيين، المتنكرين برداء الكفاح والثورة والجهاد، فأنت حين تعيشُ في أرضٍ تُسرقُ فيها الأحلام وتُرجم الآمال جهاراً، وتغدو الحياةُ فيها صورةً بائسة تطفو على سطحها ملامح النهايات السيئة، تجد وقتها ألف عذرٍ لأولئك الذين يركبون الموج هاربين بما تبقى لهم من شجاعة، أيديهم على قلوبهم، تصحبهم كلّ أدعية النجاة حتّى يبلغوا ضفّة الحياة.

   

نحنُ جيلُ الشرّ، هكذا أصبحنا نُلقّب، وجدنا أنفسنا نعيش زمن التهاوي والانحطاط، تماماً كما حدث في رواية "يوتوبيا" المرعبة

تُبارك في ذاتك شجاعتهم، وتفكّر بينك وبين نفسك كيف يصلُ المرء إلى قرارٍ كهذا، فيه الحياةُ والموتُ سيّان، متجاوران في قاربٍ لا تدري أين يمكن أن يوصلك؟، "وطنّي جنّة "، كتابٌ كنتُ أتمنّى أن أقرأه يوماً، لا بل أن أكتبه بنفسي، وأوقّع أسفله وأهديه لكلّ العابرين، أناشد فيه كلّ الهاربين أن عُودوا نجبر كسر هذا الوطنٍ معاً، نرمّم فيه كلّ جدرانٍ كان قد تهدّم، ونشدّ على أيادي بعضنا البعض، وكأننا جيلٌ لم يسرقوا منه شيئاً، جيلٌ يبدأ الحياة لتوّه.

  
لكن " لصوص الأحلام"، هذا الكتاب الذي كان أسوء إصدارٍ كان قد مرّ بنا، سادوا كلّ شيء ووضعوا أيديهم فوق كلّ شيء، حتّى الأمل الذي كنا نخبئه سراً في صدورنا، سرقوه منا وصادروا آمالنا قسراً، نحنُ الجيلُ الذي تربّى على الألم والحزن في نشرات أخبارنا، الجيلُ الذي رأى لون الدم أكثر مما رأى لون السماء، وذاقوا طعم المأساة أكثر مما استطعم بهجة الحياة، نحنُ الذين تعرفنا بمصطلح " الإرهاب" أول مرة، فكنا ندعو الله أن يكون مجرد مسلسل رعبٍ مقيت، أو فيلماً سيء التصنيف سينتهي حالما نفتح أعيننا جيداً ونفركها، ونعيد النظر إلى الأشياء بنظرةٍ أخرى، لكننا في الواقع كنا نغرقُ في كلّ مرةٍ أكثر فأكثر.

      
خفّ مع الوقت ضجيج هذا المصطلح، حلّ محلّه مصطلحٌ مضاد، سلمٌ وسلام وأشياء أخرى خلقها المالك الجديد للوطن، ثمّ ما فتئنا أن أصبح العدمُ أرضنا وسماءنا، انتصرنا على الدم نعم، لكن بشيءٍ أفظع منه، ما عدنا نرى الدم ربّما، لكنّ الخوف منه أصبح جداريةُ تغطّي كلّ مساحة هذا البلد، وانتظرنا أن تمرّ الغيمة السوداء، أن نبصر النور ولو لمرّة واحدة، أن نجرب الحياة كما تظهر في الإعلانات التلفزيونية، أن نعيش يوماً واحداً في ذلك الوطن الذي يلونونه ويزينونه في نشراتِ الأخبار بالأعلامِ والرايات الوطنية. 

   
نحنُ جيلُ الشرّ، هكذا أصبحنا نُلقّب، وجدنا أنفسنا نعيش زمن التهاوي والانحطاط، تماماً كما حدث في رواية "يوتوبيا" المرعبة التي قرأتها، كل من قرأها قال إن الكاتب كان يملك خيالاً متشائماً إلى أبعد حد، اليوم ننظر بعيون يملأها الغبار إلى المئذنة العملاقة، ونفكر في أننا تفاءلنا أكثر من اللازم. ماذا أطعمنا هذا التفاؤل غير الرملِ والتراب؟ كبرنا جداً، كبر فينا العجزُ والانتظار، لا نحنُ تغيرنا ولا استطعنا إحداث أي تغيير، ولا هم اكتفوا بما أخذوا وتنازلوا لنا عن بعض الحياة، نقولُ في أنفسنا معزّين، هذا وطنٌ ليس بالضرورة أن يكون الوطن جنّة، هناك في الجنّة ما هو أجمل من كلّ الأوطان، ونظلّ نعزّي أنفسنا وما في أنفسنا يتآكل مع الأيام والزمن.

يوم قالها ذلك الكهل التونسي " هرمنا "، كان يأملُ بشيءٍ أفضل مما عاشه طوال حياته، نحنُ أيضاً يا سيدي هرمنا، تجاوزنا كلّ شيء هنا، تخطانا الزمانُ وضاق بنا المكان، واختنقنا ونحنُ نحاولُ في كلّ مرةٍ أن نمسك بأطراف الوطن، تخلّى عنّا الوطن، لفظتنا الأرض بما فيها، سحبنا أيدينا أخيراً، كان ما تبقى من ضوء الأمل يأفل شيئاً فشيئاً، في النهاية تركنا لهم كلّ شيء، وبدأنا رحلة البحث عن أوطانٍ بديلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.