شعار قسم مدونات

عقيدة التأليه.. من التبجيل إلى التقديس

blogs -117-5-main

الأديان السماوية لم تنزل من السماء إلا لتجعل العبودية لله -عز وجل- وحده دون غيره، وكان ذلك هو هدفها الأول وقاعدتها المركزية التي ينطلق منها الرسل لنشر الدعوة بين الخلائق لإتباع تلك الأديان التي أعطت القدسية لله ومنها أعطى الله لرسله مكانتهم المرموقة في السماء والأرض، ورزقهم تشريفًا ما بعده تشريف، فكفاهم أنهم حملة رسالة الله إلى عباده، ولكنهم بشر عباد لله، ولطالما أكد الله في القرآن الكريم على مثل تلك بينة.

   
فمثلًا في سورة الإسراء حينما تجنّى الكافرون على نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم– بأنه ليس مرسلًا من عند الله وعددوا مطالبهم ليؤمنوا به مثل أن يفجر لهم من الأرض ينبوعًا إلى غير ذلك، إلى أن جاءه من الله أمرٌ بأن "قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا"، واستنكر الله في سؤاله لعيسى –عليه السلام– عن كونه دعا الناس لاتخاذه –عيسى– وأمه إلهين، فقال عز وجل في سورة المائدة "أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ"، فيستنكر الله مثل ذلك فعل من أنبيائه ورسله.

    

عقيدة التأليه تتلخص في القدسية، فذلك الشيخ هو الآمر الناهي، المُطاع المنزه عن الخطأ

وبالرغم من أن عيسى – عليه السلام – لم يدعو الناس لعبادته وأمِه إلا أن ذلك ما حدث، فهناك طائفة من المسيحيين يتخذوا من عيسى إلهًا، وأخرى تُشركه وأمه في الألوهية – تحت معتقد أن الله ثالث ثلاثة، إن تلك الطوائف وصفت المسيح بالإله علانيةً وتصالحت مع ذلك كعقيدة، ولكن تلك العقيدة طالها المزيد من التطور، فأصبحت عملية التأليه أكثر انتشارًا ولكن أقل تصالحًا مع الذات كعقيدة.

   
فنجد كثيرًا من اليهود والمسيحيين "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا" –سورة التوبة– فأصبحوا يحظون بتقديس الله عز وجل، بل ويرتبط إيمانهم بالله بإيمانهم بقدسية تلك الأحبار والرهبان وبالتحديد المشايخ منهم. وهنا يشرح لنا دوستويفسكي – كاتب روسي شهير – معنى الشيخ – أو بالأحرى شيخ الرهبان – في إحدى رواياته من ترجمة الأديب سامي الدروبي فيقول " أن الشيخ هو السيد المطلق الذي يسيطر على النفوس والإرادات، فحين يختار المريد شيخًا لنفسه يتنازل عن حريته، ويلزم نفسه بطاعة مطلقة، ناسيًا ذاته كل النسيان".

   
وبذلك التعريف الذي وضعه دوستويفسكي نستطيع اكتشاف ماهية عقيدة التأليه، وهي تتلخص في القدسية، فذلك الشيخ هو الآمر الناهي، المُطاع المنزه عن الخطأ – أو هكذا يظن المريد – فلا تتجرأ أبدًا على نقاشه بل ومن الأساس لا تفترض كونه بشرًا يخطأ حتى يمكنك انتقاده، ويحضرني في هذا السياق جملة من أفضل جمل الفيلسوف الفرنسي فولتير " إذا أردت أن تعرف من يتحكم بحياتك، فعليك أن تفكر في الجهة التي لا يمكنك انتقادها".

    
فنحن لدينا العديد من المسلمين الذين اتخذوا من عقيدة التأليه منهاجًا لهم، فتجدهم يقدسون فلانًا، أو يمجدون في آخر، ويربطون الإيمان بالله بالإيمان بقدسية ذلك الشخص، فحينما يفكر أحدهم في انتقاد ذلك الشيخ تجدهم ينهالون عليه بعبارات السُباب والتشكيك في كلامه – بل في نفيه كليةً – ويتهمونه بالهذيان، بل يمكن أن تصل للتكفير، دون أن يفكر شخص منهم أن يجعل هذا الانتقاد تحت حيز البحث والتفكير بدلًا من السباب والتكفير. وما أن تسأل عن مبررًا لهذا التقديس حتى تسمع عبارات من نوعية أنه من أولياء الله وعلّامة قدير ولا يمكن أن يخطئ، وغير ذلك من المبررات الواهية.

   

وجدنا أنفسنا في عالم ملئ بالآلهة رغم ادعاء هؤلاء أنهم يعبدون إلهًا واحدًا

إن الله عز وجل أعطى لنفسه وحده القدسية، فهو القدوس المهيمن، وأعطى لرسله الشرف العلو في السماء قبل الأرض، وسلب من عامة البشر العصمة فهو القائل على لسان رسوله المعصوم محمد – صلى الله عليه وسلم – أن " كل بني آدم خطاء " فالبشر معدومي القدسية وإنما ينالون الاحترام والتبجيل على أفعالهم، فإن صلح فعلهم كان لهم التبجيل من بقية البشر، وإلا فهم لا يستحقون التبجيل، ولا يمكن أن يشفع لهم ما قدموه من علمٍ ديني أو دنيوي، أو ما قدموه من أفعال وتصرفات سامية، وذلك لأنهم بشر يخطئون لا محالة، هم بشر يمكن انتقادهم على مائدة الحوار الفكري، هم بشر، لذلك يحظون بالتقدير على ما قدموه ولا يمكن أن يُنسي فضلهم ولكن لا يمكن إبعادهم عن دائرة الحوار والانتقاد.

   
إن تلك الآفة لا تفرق بين المتدين والملحد، فكل يصنع إلهه بنفسه، ويغضب إن أقدم أحد على العيب فيه، ويزمجر إن اجترأ على التشكيك في فكره أو ما يقدمه لمناصريه، حتى وجدنا أنفسنا في عالم ملئ بالآلهة رغم ادعاء هؤلاء أنهم يعبدون إلهًا واحدًا. إن عقيدة التأليه داء يصيب جميع العقول، ولكن المفلح من يتخلص منه ويفتح المجال لعقله لينضم إلى مائدة الفكر، يتقبل الفكر المعاكس يتحرى صحته ويحلله حتى يتثنى له فهمه قبل أن يبدأ في مهاجمته، حتى نرى عالم أصلح يمجد الفكر لا المفكر. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.