شعار قسم مدونات

الثورة السورية بين الإسبارطيين واليونانيين

blogs - 117-3-main

بعد حرب طاحنة استمرت ثلاثين عاما بين إسبارطة وأثينا استقر الوضع أخيرا الاسبارطيين الذين أعدوا العدة لهذه الحرب بشكل جيد فمع أيام الطفولة الأولى يتدرب الأولاد على القتال والحرب وليس لهم عمل إلا ذلك فإسبارطة دولة عسكرية بامتياز يعتمد اقتصادها على الزراعة التي يقوم بها العبيد، واليونانيون شعب له حضارة وأثينا دولة تعددت فيها النجاحات على كل المستويات العلمية والفنية والتجارية والمعمارية وشعبها مرفه ومثقف ثقافة عالية وتتوفر له كل وسائل الراحة لا تشبه أبدا تلك الموجودة في إسبارطة اضطر الإسبارطيون على البقاء في اليونان كمحتلين لكيلا يحشد اليونانيين جيوشهم من جديد لينتقموا من الإسبارطيين.

  

امتزجت شعوب الدولتين وامتزجت عاداتهم وفتن الاسبارطيون بالحضارة اليونانية التي لم يكونوا يعرفوا مثلها في بلادهم فانتشرت الفلسفة والفن والرياضة والتجارة والانفتاح على العالم عن طريق موانئ اليونان عاد اليونانيون وهزموا الإسبارطيين الذين فقدوا إرادة القتال وتراجعت قوتهم العسكرية وانتصرت في النهاية الثقافة اليونانية واندثرت ذكرى إسبارطة إلا بآثار باقية وبعض القصص والاساطير التي تروي بطولات جنودها وبقيت حضارة اليونانيين لمئات السنيين كدولة وبقيت إلى الآن كثقافة وتاريخ غني بالعمارة والفنون والعلوم الطبية والفلسفية التي لاتزال مصطلحاتها تدرس في الجامعات بكلماتها اللاتينية القديمة.

   

لا يمكن الاستمرار بالنصر وبناء الدولة بدون الفكر والعلم والثقافة التي تحصن هذه الدولة الثورية الناشئة فما الفائدة من النصر العسكري إذا انتشر بعده الظلم والفساد

وإذا فتحنا صفحات التاريخ وجدنا قصصا كثيرة تشبه قصة الحرب بين الإسبارطيين واليونانيين فهاهم المغول وفي فترة زمنية قصيرة من عمر التاريخ احتلوا بلادا واسعة وقضوا على ملوك عظماء وأنشأوا إمبراطورية كانت الأكبر على مر العصور لكن سرعان ما تحطمت هذه الإمبراطورية التي لا تحمل إلا المعاني العسكرية تحطمت من قبل الأمة التي تحمل المبادئ والقيم هزم المغول في كثير من المعارك العسكرية من قبل المسلمين ولكن كان للثقافة الإسلامية دور كبير في تفكك إمبراطورية المغول من الداخل فأسلم الكثير من القادة ودخل الكثير من المغول في الإسلام وامتد نفوذهم من الهند إلى العراق والأناضول مرورا بوسط آسيا وفي النهاية انتصرت الثقافة وانتصر أصحاب الفكر على العسكريين الذين لا يحملون إلا ثقافة القتال.

  
لكن ما علاقة هذا كله بالثورة السورية، بداية لكي لا تفهم الجملة الأخيرة بغير معناها، فلا أقصد بأن الثورة يجب عليها الالتجاء إلى الأمور الفكرية والثقافة وتترك القتال الذي فرض عليها لتدافع عن نفسها وإنما ذكرت ذلك للفت الانتباه إلى أمر عظيم لا يقل أهمية عن العمل العسكري ويمكن القول بأن العمل العسكري لا يمكن له النجاح إلا إذا كان الثوار يحملون فكر التغيير الناضج لأنه إذا افترضنا نتائج الحل العسكري فهو إما نصر وإما هزيمة فإذا كان نصرا عسكريا فلا يمكن الاستمرار بالنصر وبناء الدولة بدون الفكر والعلم والثقافة التي تحصن هذه الدولة الثورية الناشئة فما الفائدة من النصر العسكري إذا انتشر بعده الظلم والفساد وعادت الأسباب نفسها التي خرج لأجلها الثوار.

   

والافتراض الثاني هو الهزيمة العسكرية وفي هذه الحالة لا تعتبر إلا هزيمة بمعركة وليست هزيمة بالحرب ككل لأن الشعب الذي يحمل أفكارا ناضجة ويصبر على الابتلاء ويمتلك الإرادة والتصميم على النصر مهما كانت الظروف ويكون الثائر قدوة لكل المظلومين ورمزا يقتدى به ويضرب به الأمثال بأخلاقه والقيم التي يحملها وصدقه والأثر الذي تركه قبل هزيمته عسكريا فمن المؤكد بأن هذه الصفات التي يحملها الذين يعملون للثورة سوف تكون لهم ضامنا لإعادة الكرة والانتصار في نهاية الحرب لأن الله وعد بذلك للذين يأخذون بالسنن الشرعية والكونية للنصر.

    

وعندها فقط نقول بأن الله أخر النصر ليزال الخبث في صفوف الثورة أما إذا لم يؤخذ بالسنن فالأصح أن نقول بأن الله استبدلنا لعدم أخذنا بأسباب النصر ولا يمكن أن ننتظر نتائج جديدة بعد تكرارنا للأخطاء نفسها يجب أن نعلم بأن الثورة ليست ثورة سيطرة على مواقع أو انسحاب من مواقع أخرى مع أهميتها وإنما هي مجموعة من القيم السامية والأفكار الناضجة التي تهذب سلوك حاملي لواءها وتجعل منهم أناسا عظيمين يحملون بأمانة منهج التغيير. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.