شعار قسم مدونات

روح الصوفي بين الحب والجمال..

blogs - 117-1-main

ما أحوجَنا فِي هذا العصرِ الذي تخلّلتْ الماديّة ثناياه، فألقتْ بِظلّها على كُلّ تفاصيلِه، أنْ يتذكّرَ الإنسانُ مِنّا ذلكَ الجُزء المُفارِق الذي انطوتْ على سِرّه النّفس، وقصّرتْ عن رؤيتِهِ الحواس، وانقطعَ دُونَهُ العقل، عن تلكَ النّفخةِ أتكلم، وبِتلك النّفحة أصِف، وحول هذه اللّطيفةِ أدُور. "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا".
  
أسْما ما سَما بِالإنسان، ونأى به عنْ ركبِ الحيوان، وأوقعَ لهُ الملائكةَ سُجّدًا، روحٌ من روحِ اللهِ تأهل بِها أنْ يكونَ خليفتَهُ فِي الأرض، مُحمّلًا بِرسالاتِه، داعيًا فِي بريّاتِه، صِيغَ على أجملِ هيئة، وخُلِقَ فِي أحسنِ تقويم، حُمِلَ فِي البرّ، وحُمِلَ فِي البحر، ذُلّلتْ لأجلِه الأنْعام، وسُخّرتْ لهُ النّعم.
  

أنْ تكونَ صُوفيّاً معناهُ أنْ تصيرَ إنساناً يَسْعَى فِي حياتِه بين الذّكر والفِكر، امتلأَ قلبُهُ حُبًا، وفاضَ رحمةً وجمالًا

شَهِدَتْ تِلكَ الأرواحُ أعظمَ إشهاد، وأوثقَ مِيثاق، حِين خُوطِبتْ مِن قِبل النّور الأقدس بِخطاب " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" في عالمِ الذّرّ، حيثُ كُنّا أو كانتْ أرواحُنا. "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ"، التّصوف، اتّسعتْ رُؤيتُهُ فضاقتْ عِبارتُه، وتعدّدتْ تعريفاتُه بِتَعدّد أربابِ السّلوك، فكأنّما خَطّ كُلُّ سالِكٍ تعريفَهُ الذي استقاهُ من تجربتِه، حتّى أوصَلها بعضُهم إلى ألفِ تعريف، فأتيتُ المائدةَ مُتطفّلًا، وأضفتُ واحدًا بعد الألف، وهمُ القومُ لا يشْقى بِهم جليس.
  
أنْ تكونَ صُوفيّاً معناهُ أنْ تصيرَ إنساناً يَسْعَى فِي حياتِه بين الذّكر والفِكر، امتلأَ قلبُهُ حُبًا، وفاضَ رحمةً وجمالًا، إنسانًا يرى الجمال فِي أدقّ تفاصيلِ حياتِه، فِي الصّباح، والشّمسُ تنشرُ خيوطَها الذّهبيّة، وفِي المساء، والقمرُ يتلألأ فِي السّماء، فِي الرّبيعِ وأزْهارِه، وفِي العُودِ وأوتارِه، فِي الرّياحِ وهيَ تهمسُ فِي أُذُنِ الوُجود، وفِي النّاي يُداعبُ قُلوبَ العاشِقين.
     
أنْ تكونَ صُوفيّاً معناهُ أنْ تخوضَ غِمار تجرِبتكَ الرّوحيّةِ بحثًا عن الله، فِي الآفاق، وفِي نفسِك، فِي آياتِه الكونيّة، وفِي كلماتِه العُلويّة، فِي قرآنِه المنظور، وفِي كونِه المسطور، معناهُ أنْ تذوقَ حلاوةَ الإيمان، لا أنْ تُخْبَرَ عنْها، معناهُ أنْ تعمُرَ الأرضَ بِفكرك، وتناجِي السّماء بذكرك.
    
اللّسانُ تُرجمانُ العقل، والقلْبُ لِسانُ الرّوح، يُفضي كُلٌ مِنهُما إلى صاحِبِه، وقدْ قالت العربُ قديمًا: المرءُ بأصْغَرَيْه (قلبِه ولسانِه)، وقال زُهير:
      

وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ 
زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ 
فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ

    
فالصّوفيُّ رُوحُهُ مِن عند اللهِ منبعُها، وإلى رِضوانِهِ مَردّها ومَرجِعُها، وعقلُهُ عقلُ فيلسوفٍ ما زالَ يحتفظُ بدهشةِ الطّفولة، ولِسانُهُ لِسانُ شاعرٍ ذاقَ سِحرَ البيانِ فأبان، وقلبُهْ مجلوٌ كالمرآة، صافٍ مِن الأكدار، عامرٌ بالأذكار، يرى الله فِي الليل والنّهار، فِي آثار رحمتِه، وفِي جميل لُطفِه، وفِي بديعِ صُنعِه.
   
التّصوفُ يسبُرُ أغوارَ النّفس، وبواطنَ الأمور، فإنّ خلفَ المبانِي معانِي، ووراءَ العِبارات إشارات، يُدرِكُ كُنْهَهَا مَنْ بَرّحَ بِهِ طُولُ البحث، وبَرَتْ جسدَهُ لوعةُ الشّوق، ويَعلمُ حقيقتَها مَنْ خلعَ رِبقة التّقليدِ مِنْ عُنِقِه، ونزعَ ثوبَ الرذائِل، وتحلّى بأشرفِ الفضائِل، فحِينها يدخُلُ المبانِي فَيُخْرِجُ المعانِي، ويقرأُ العِبارات فيفهمُ الإشارات، وتُزالُ العوالِق، فتنجلي الحقائِق.

  
إِذَا سَكَنَ الغَدِيرُ عَلَى صَفَاءٍ
وَجُنِّبَ أَنْ يُحَرِّكَهُ النّسِيمُ
بَدَتْ فِيهِ السَّمَاءُ بِلَا امْتِرَاءٍ
كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدُو وَالنُّجُومُ
كَذَاكَ قُلُوبُ أَربَابِ التَّجَلِّي
يُرَى فِي صَفْوِهَا اللهُ العَظِيمُ
   

أنْ تَكونَ صُوفيّاً معناهُ أنْ تَكونَ إنسانًا يُحاكِي أصلَ الفِطرة، ويعملُ بمقتضى تِلك الرّوحِ السّاريةِ فِي أوداجِه، ذاتِ الطّابع الكَونِيّ، يدأبُ فِي نفعِ البشريّة، ورفعِ الظلمِ عن كُلّ مظلوم، وإغاثة كُلّ مَلهوف، هَيّنٌ فِي سمتِه، ليّنٌ فِي مُعامَلتِه، سَهلٌ فِي مسلَكِه، يجدُ فِي كُلّ إنْسانٍ جُزءَهُ الضّائِع، وشيئًا مِنْ شَتاتِه المَفْقُود، فتكتمِلُ بِكُلّ إنْسانٍ نَفْسُه، وتنتَشِي رُوحُهُ مَعَ كُلّ ابتسامةٍ يرسُمُها عَلَى وُجوهِ مَنْ امْتلأَتْ حَياتُهُم بُؤسًا وحُزنًا، يجودُ بماءِ عينِه على كُلّ ظمآن، ويقفُ منتصباً فِي وجه التّجبّر والطّغيان، يقولُ الحقّ ولو كانَ فِي ذلِكَ حتْفه، فهو الذي أخرجَ الدّنيا مِن قلبِه، وبسطها فِي كفّه، فما عادتْ تساوِي عِندَه إلّا كما تُساوِي حفنةُ الرمْل عِندَ أعرابيٍّ فِي صَحراء.
  
وَلا يكتمِلُ الحديثُ عن التّصوف بِمَعزلٍ عَن الحُبّ، فالحُبُّ مِلاكُ الأمر، وذِروة سنامِه، وجِماعُ المسائِل كُلِّها، وقد حارتْ بينَ حرفَيهِ العُقُول، وتاهتْ فِيهما الألْباب، يقول الإمام ابن حزمٍ الأنْدَلُسِيّ حاكيًا عَن الحُبّ الإنسانيّ: "دَقّتْ معانِيه لِجلالتِه عَنْ أنْ تُوصَف، فلا تُدركُ حقيقتُها إلّا بالمُعاناة"، ويقول أبو الطّيب المُتنبّي:

     
وعذلْتُ أهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ
فعجِبتُ كَيفَ يَمُوتُ مَنْ لا يعشَقُ
وعذَرتهمْ وعرفتُ ذنبيَ أنّنِي 
عيّرتُهم فَلَقِيتُ فِيهِ ما لقُوا

  
ويقول جلالُ الدّين الرّومِي حاكيًا عَنْ العِشق الإلهي "ولا يُمكن تعليمُ درس العِشق برسائلِ الفلسفةِ وعلم الكلامِ والمنطق؛ لأنّ العِشقَ ليستْ لهُ أبجديّة، وكُلّ سَعيٍ إلى بيانِ العِشقِ وإيضاحِه وتفسيرِه لا طائِلَ مِنْ ورائِه".
 
ويقولُ الرّافِعيّ مازجًا بينَ النّوعين: "فليتَ شِعري كيفَ تصنعُ هذِه القوّة فِي الإنْسان وهِي فِيه أمانة ثُمّ رغبة زائِدة عليها، ووفاءٌ ثُمّ غاية أعلى مِنه، وحُبٌ إنسانيّ ذاهبٌ إلى طَرَفِه الإلهيّ، وشيء معلوم ثم شيء مجهول فِي معلوم؟"، اللهُ هو المُحِبّ الأوّل للإنسان، فلولا محبّتِه لَمَا خَرَجْنا من غياهِبِ العدمِ إِلى أنوارِ الوُجود، وَلَمَا كُرِّمْنا فِي الجنّة بالسّجود، وكُلّ حُبٍ نَقِيّ، فمُنتهاهُ اللهُ العَلِيّ، فهُوَ الأوّلُ والآخِر، والمُبدِئ والمُعِيد، والكلامُ فِي الحُبّ طويلةٌ ذُيولُه، بلْ لا نِهايةَ لها!
  
إنّ التّراثَ الإسْلاميّ الصّوفِيّ الرّوحيّ غنيٌّ بالكُنوزِ التي تأسِرُ الناظِرين، وتُحيي القلوبَ التي ماتتْ، وما زالتْ تضخّ الدّمَ فِي العُرُوق، ولا يمْنعنا ما شابَ هذا التّراثَ مِن المَدخُولاتِ المُخالِفة، والنُّحولاتِ الزّائِفة، والأفهامِ السّقِيمة، والشّطَحَاتِ العقِيمة، مِنْ أنْ نرتشفَ مِن نبعِهِ ونغتَرِف، فَفِيهِ ما فِيه مِن الحِكم والقواعِد المُنقِذة مِن الضّلال، والتي ترمِي لإحياء الرّسالة المُحمَديّة الخاتمة، وتسيرُ بالإنسان في معارجٍ تِلوَ مدارِج، ومنازلٍ بعد أُخْرَى، حتّى يبلُغَ المُنتهى فِي بُستانِ العارِفين، وجنّة رَبّ العالمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.