شعار قسم مدونات

"ظلمُ" دون ضجيج!

blogs أب وابنه

لطالما سمعنا ونسمع أنّٙ هذا الجيلٙ فاسدٌ مفسد، جيلٌ مفْرغٌ إلّا من الهواء، ولطالما رأينا نظرةٙ التعجّب من مسألة نهضة الأمّة، وكيف لجيلٍ أكبرُ همّه شاحن الهاتف وبطاقة رصيدٍ أن يساهم في نهضة أمّة؟! كلُّ هذا الكلام يصدر من أفواه آباء هذا الجيل، يتحدّثون بمثله بمنتهى البرودةِ والسذاجة، وكأن هذا الجيل نبت من الأرض، أو أنّٙه جاء من كوكبٍ آخر، يُمعِنون في ذمّهِ وكأن العلاج في الذم، ولكنّٙ الحقيقةٙ أنّٙهم أخطأوا التشخيص فأخطأوا العلاج.

إنِّهم يقذفون هذا الجيلٙ بحجارة عدم المسؤولية، ويكسرون بها زجاج ما تبقّى من عمرانٍ داخلهم، إنّٙهم بفعلهم هذا سيهدمون البناء في قلوبهم، ظانّين أنّٙ إيجاد البناء من جديدٍ أسهل من ترميمه. إنّٙ هذا الجيل تربةٌ خصبة، تحوي بذرة الخير والصلاح، لكنّٙ هذه البذرة لم تُسقٙ بماء الخير من ذلك النبع الذي وصفه لنا رسولنا الكريم، وهو نبعُ (الرعاية)، "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته". أيا معشر القصّرين، لقد قذفتم هذا الجيل بحجارةِ نقصكم، النقص الذي لا تتكلّفون حتى بتعويضه، إنّما تكتفون بذمِّ نتاجه، وليس هذا الذمُّ سوى مسكّناتٍ لضمائركم ومنوّماتٍ لها، لقد جعلتم قصّة ما قبل النوم هي (ما فازٙ إلّا النُوّٙمُ)، تتلونها على ضمائركم كل ليلة، فلا تلومونا ولوموا أنفسكم على ما قصّرتم فيه من قبل.

هناك كثيرٌ ممن يُسٙمّونٙ آباءً الآن، قد ظلموا أنفسهم بأيديهم، بصمتٍ وبلا ضجيج، جعلوا إطار الزواج في عقولهم مجرّد عادة اجتماعية، لم يٙجِدّوا في كسب العلم اللازم الذي يؤهلهم لحمل هذه الأمانة، وأؤكد هنا أنّٙهم ظلموا أنفسهم باختيارهم، لم يظلمهم أحد، لقد كانت المهمّة واضحة أمامهم وتعليماتها جليّة، ولكنّهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، ونأوا بجانبهم، ذلك لأنّٙ صوت الحقِّ أزعجهم وصوت الباطل أطربهم، لأنّٙهم لم يروا في طريق الخير سوى بضع الشوكات، ولم يروا في طريق الشرِّ سوى أرضٍ مُمٙهّدٙةٍ وسهلة، لكنّهم للأسف لم يُعٙمّقوا النظر أكثر ليدركوا تلك الرمال المتحرّكة التي تغطي هذا الطريق. إنّهم يعلمون مدى عمقِ معنى الزواج والإنجاب، ولكنّهم لا يريدون الإبحار فيه، اختاروا البقاء على الشاطئ فأخذهم المدّ، ولو أنّهم أبحروا لرفعهم موج الصلاح.

لنجعل طموحنا هو عالمٌ أفضل يبنيه جيلٌ أرقى، دنيا أفضل لمنزلة أعلى في الآخرة، فلنضع بصماتنا في هذا العالم ونجعلها أزليّة لا تُمحى
لنجعل طموحنا هو عالمٌ أفضل يبنيه جيلٌ أرقى، دنيا أفضل لمنزلة أعلى في الآخرة، فلنضع بصماتنا في هذا العالم ونجعلها أزليّة لا تُمحى
 

لا تلومونا ولوموا أنفسكم، لوموا أنفسكم وأصلحوها، ولا تجعلوا اللّوم نٙدْباً وسخطاً فقط، فمن رٙحِم اللّوم يولد منتهى الإصلاح، أعيدوا ترتيب عقولكم، انفضوا عنها الغبار، واكشفوا ستائر وعْيكم، اجعلوا نور الحقِّ والصلاح يتدفق إلى حجرات قلوبكم، أنتٙ أيها الأب، وأنتِ أيتها الأم، تشرّبوا واغترفوا من نبع القرآن، تذكّروا قوله تعالى :"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" وقوله تعالى: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"، املأوا وعيكم بمفهوم الاستخلاص، واجعلوا هذا الامتلاء ينعكس على رعاية أبناءكم، اجعلوا حديث "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته" يُتٙرجمُ إلى طرزٍ شكليّة عمليّة تطبيقيّة، لا تضيّقوا حدود وعيكم إلى اختزال مفهوم الاستخلاف على أنه محافظةٌ على حياة هذا الابن وكفى، تماماً كرعاية قطّة لصغيرها، لا تجعلوا أنفسكم مجرّد خدمٍ لأبناءكم، بل أنتم مربّون ومنشؤون وحاملون لهذه الأمانة.

إنّٙ المهمّة كبيرة وعظيمة، إنّها مهمّة إعداد الخليفة، خليفة الله في أرضه، معمّر الأرض، إنّها توفير البيئة اللّازمة لا لاستمرار العيش فقط، بل إنّما هناك ما هو أهم، إنّه ما خُلقنا لأجله، تلك البيئة اللّازمة لجعل هذا الابن ما ينبغي أن يكونه، لجعله في أحسن تقويمٍ كما أراده خالقه أن يكون. رممّوا ذواتكم لترممّوا أبناءكم، شيّدوا صرح الاستخلاف في أراضيكم، واحفروا أساساته في أراضي أبناءكم ليكونوا قادرين على الإبداع في تشييد صروحهم فيما بعد، وليزرعوا ورود الخير والصلاح في حدائق هذا الصرح العظيم، فيتناثر رحيقه في فضاء المجتمع كلّما هبّت رياح الإيمان.

ارفعوا سقف طموحاتكم، اجعلوها تتعدّى حدود الفهم الذي ترسّخ وترسّب في العقل الجمعيِّ لهذا المجتمع عن ماهيّة الزواج والتربية، فلنجعل طموحنا هو عالمٌ أفضل يبنيه جيلٌ أرقى، دنيا أفضل لمنزلة أعلى في الآخرة، فلنضع بصماتنا في هذا العالم ونجعلها أزليّة لا تُمحى، نعم فلنجعل هذه البصمات تحيا على رقيِّ عقول أبناءنا، فلنجعلها كزرعةٍ تُسقى بماء صلاحهم وإعمارهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.