شعار قسم مدونات

الاحتفاء بالخونة في تاريخنا.. أحمد بن ماجد مثالاً

أحمد بن ماجد

عندما كنت صغيرا ً في المرحلة الابتدائية كنت أداوم على شراء مجلة ماجد الصادرة من دولة الإمارات العربية المتحدة وهي بحق هدية قدمتها الإمارات للطفل العربي بما تحتويه على معلومات نافعة وقصص مسلية ومقالات مفيدة وسعت مدارك الكثيرين من الأطفال العرب خصوصا في جيلنا جيل الثمانينات وأوائل التسعينات. من أجمل القصص التي قرأتها في تلك المجلة كانت مغامرات أسد البحر أحمد بن ماجد والتي تحكي قصص خيالية عن رحلاته ومهاراته البحرية وعن صداقته مع فاسكو دي جاما الملاح البرتغالي الشهير.

 

كان ابن ماجد في ذلك الوقت من أكابر النظر في عيني خصوصا أنني لم أكن قرأت في النقد وكان يغلب على ذهني في ذلك العمر التلقي فقط حيث لم تدربنا مناهج التعليم العربي سوى على التلقين ولم نكن نعرف (النقد) ولا الفكر النقدي خصوصا في التاريخ. ومر الزمن واهتزت في قلوبنا وعقولنا كثير من الثوابت في كل الشيء وشاهدنا بأعيننا كيف يزيف التاريخ وكيف يتحول الخونة إلى أبطال وثوار ويتحول الثوار إلى خوارج وفوضويين وعرفنا ألا نصدق الروايات الرسمية للتاريخ لأنها رواية السلطة والتي لا تحتوي إلا على جزء من الحقيقة. ومن الأشياء التي اهتزت في نفوسنا نظرتنا إلى الأسلاف فالأمم التي تروي تاريخا مزيفا لا يمكن أن تتقدم.

 

ومن الأمور الصادمة التي عرفناها هو حقيقة أحمد بن ماجد الذي سموه لنا أمير البحر وجعلوه مخترعا للبوصلة وهو مجرد ملاح خائن تسبب في كوارث مروعة ومقتل الآلاف من المسلمين على يد البرتغاليين في إفريقيا وآسيا. لا أنكر أن أحمد بن ماجد كان بارعاً في الملاحة وأنه ألف في علوم البحار مؤلفا ً ثوريا في وقته وهو كتاب الفوائد في علم البحر والقواعد يعتبر من أهم ما كتب في علوم البحار في زمانه لكن مع كل هذا العلم وإقرارنا بكل هذا الفضل فقد كان أحمد بن ماجد رجلا خائنا لا فرق بينه وبين أبي رغال الذي قاد جيش أبرهة الأشرم في عام الفيل وابن العلقمي وزير المستعصم العباسي الذي تواطئ مع هولاكو ضد خليفته وأهل بغداد.

 

سلطان مالبيندي الذي منح البرتغاليين أحمد بن ماجد ليدلهم على طريق الهند كان أول من سمح للبعثات التبشيرية البرتغالية بالعمل في بلاده وبناء الكنائس

لقد كان فاسكو دي جاما (أسد البحر الحقيقي حسب ما كان يسمي نفسه) تائها في البحر عاجزا عن الوصول إلى الهند حتى أرشده أحمد بن ماجد في جلسة سكر على الطريق الذي من خلاله يصل إلى الهند ويعلق المؤرخ اللبناني جورج حوراني على ذلك (كان دي غاما يبحث بشرق إفريقية عن دليل يحمله إلى الهند، فلم يجد إلا أحمد بن ماجد. فكان من سخرية التاريخ أن ملاحاً عربياً كبيراً ساعد على القضاء على الملاحة العربية).

 

ويحكي المؤرخ قطب الدين النهروالي في كتاب البرق اليماني في الفتح العثماني (وقع في أول القرن العاشر من الحوادث الفوادح النوادر دخول البرتغال اللعين من طائفة الفرنج الملاعين إلى ديار الهند وكانت طائفة منهم يركبون من زقاق سبتة في البحر ويلجون في الظلمات ويمرون بموضع قريب من جبال القمر ويصلون إلى المشرق بموضع قريب من الساحل في مضيق أحد جانبه جبل والجانب الثاني بحر الظلمات في مكان كثير الأمواج لا تستقر سفنهم وتنكسر ولا ينجو منهم أحد واستمروا على ذلك مدة وهم يهلكون في ذلك المكان ولا يخلص من طائفتهم أحد إلى الهند، إلى أن خلص منهم مركب فلا زالوا يتواصلون إلى معرفة هذا البحر إلى أن دلهم شخص ماهر يقال له أحمد بن ماجد.

 

صاحبه كبير الفرنج وكان يقال له الميندي وعاشره في السكر فعلمه الطريق في حال سكره وقال لهم لا تقربوا الساحل في ذلك المكان وتوغلوا في البحر ثم عودوا فلا تنالكم الأمواج فلما فعلوا ذلك صار يسلم من الكسر أغلب مراكبهم فكثروا في بحر الهند وبنوا كوه في بحر الدكن قلعة يسمونها كوتا ثم أخذوا (مضيق هرمز) وتقووا هناك وصارت الأمداد تترادف عليهم من البرتغال وتقووا هناك وصاروا  يقطعون الطريق على المسلمين أسرا ونهبا ويأخذون من كل سفينة غصبا إلى أن كثر ضررهم على المسلمين وعم أذاهم على المسافرين فأرسل السلطان مظفر شاه بن محمود شاه سلطان كجرات يومئذ إلى السلطان الأشرف قانصوه الغوري يستعين به على الإفرنج ويطلب العدة والآلات والمدافع لدفع ضرر الإفرنج على المسلمين ولم يكن أهل الهند إذ ذاك يعرفون المدافع والمكاحل والبندقيات).

 

هذه هي الرواية التي رواها المسلمين أما الرواية التي رواها البرتغاليين ففيها تفاصيل أكبر بل وفيها اتهام صريح لابن ماجد في عقيدته، يقول البرتغاليون أن ملك البرتغال إمانويل كلف بحارا يسمى استبيان دي غاما للقيام بكشف جغرافي يغطي على الاكتشاف الذي وصلت إليه مملكة إسبانيا المنافسة ولكن هذا البحار توفي قبل أن ينفذ المهمة فكلف بحارا آخر اسمه بارتلميو دياز الذي تحرك في أسطول من السفن وكان من طاقم هذا الأسطول نجل البحار استبيان دي غاما فاسكو الذي كان يقود باخرة تسمى سان غبريال وبعد سبعة أشهر من الإبحار والاستكشاف وتحديدا في 16 ديسمبر 1497م قرر البحار بارتليمو دياز العودة إلى البرتغال بعد أن وصل إلى الساحل الغربي لجنوب إفريقيا حيث تم استدعائه لمهام في ساحل الذهب (غانا).

 

بعد أن وصل فاسكو دي غاما إلى الهند وجد أنه لا يملك أموال لشراء أي شيء ثمين لإرساله للبرتغال ما دفعه لشراء كمية بسيطة من التوابل وأخذها معه إلى طريق العودة
بعد أن وصل فاسكو دي غاما إلى الهند وجد أنه لا يملك أموال لشراء أي شيء ثمين لإرساله للبرتغال ما دفعه لشراء كمية بسيطة من التوابل وأخذها معه إلى طريق العودة
 

ومنها عاد إلى البرتغال ليتفرغ لقيادة الرحلة البحار الشاب فاسكو دي غاما والذي استطاع الالتفاف على رأس الرجاء الصالح والوصول إلى موزمبيق وهناك تظاهر فاسكو دي غاما بالإسلام ليقابل سلطان البلاد ولكن سرعان ما تم اكتشاف أمره ليفر من البلاد وهو يطلق مدافعه على السكان المحليين الذين قدموا ليفتكوا به وواصل برحلته نحو ممباسا الميناء الكيني الذي يسيطر عليه المسلمين وهناك طلب من سلطان البلد المعاونة للوصول إلى الهند الأمر الذي تظاهر سلطان ممباسا (العماني) بالموافقة عليه لكنه كان يعد مكيدة لفاسكو دي غاما لتسليمه إلى المماليك بعد أن عرف غايته من الرحلة وعرف فاسكو دي غاما ذلك فهرب ومن معه وأمام الساحل الكيني اتجه فاسكو دي غاما للقرصنة ومهاجمة سفن الحج الإسلامية وقتل وفتك الأبرياء قبل أن يجد بين أسراه من يساعده إلى الوصول إلى ماليندي الميناء الهام على الساحل الكيني.

 

والذي كان سلطان ناحيته على عداء مع سلطان مومباسا وسلطان موزمبيق فوقع اتفاق صداقة مع فاسكو دي غاما للتعاون ضدهما وهناك التقى بالملاح أحمد بن ماجد الذي كان يعمل لدى السلطان الماليندي وهنا يختلف المؤرخون البرتغاليون فبعضهم يقول إن أبين ماكبيد (هكذا يسمونه) كان مسيحيا يسوعيا وبعضهم يقول كان مسيحيا يتظاهر بالإسلام ليرشدهم إلى طريق مختصر للوصول للهند استغرق منهم 23 يوما فقط.

 

وبعد أن وصل فاسكو دي غاما إلى الهند وجد أنه لا يملك أموال لشراء أي شيء ثمين لإرساله للبرتغال ما دفعه لشراء كمية بسيطة من التوابل وأخذها معه إلى طريق العودة حيث أضمر العودة وقد عاد في المرة التالية بعد أربع سنوات غازيا لا تاجراً. سلطان مالبيندي الذي منح البرتغاليين أحمد بن ماجد ليدلهم على طريق الهند كان أول من سمح للبعثات التبشيرية البرتغالية بالعمل في بلاده وبناء الكنائس حتى أن القسيس الإسباني الشهير الذي يسمى فرانسيس خافيير يحكي أنه عندما زار مدينة ماليندي بعد 50 سنة من رحلة فاسكو دي غاما وجد أن ثلاثة مساجد من أصل 17 مسجدا لا زالت مفتوحة وأن الثلاث مساجد تشكو قلة المصلين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.