شعار قسم مدونات

هل ترى المرض لغزا؟

blogs مريض

"قد يكون لغزاً بالنسبة للعوام، لكن في الحقيقة؛ هو أمر حقيقي وواضح، فإن كان المرض لغزا صعب التصور بالنسبة لي فهو لا يمثل لغزا بالنسبة للأطباء، فأنا عندما أدخل غرفة العمليات أسلم أمري كاملا للطبيب بكل أريحية، سواء كان هناك حل لمشكلتي الطبية أو لا.. فأنا لا أرى أنّ على الإنسان أن ينظر لحياته بهذا القدر من التعظيم، لكن إحساس الإنسان بقيمة حياته دائما ما تكون مبالغة رومانسية غير منطقية. فماذا قد يحدث للبشرية لو فقدت شخص مثلي أو أهم؟.. لا شيء في الحقيقة. ولكني أنظر دائما للمرض على أنه الحرمان من الحركة والتفاعل"

 – أمل دنقل.

 

هكذا كان رأي الشاعر الكبير أمل دنقل في المرض، فهو يري أن المشكلة الحقيقية وراء المرض، هي فقدان القدرة على الحركة والتزام الفراش والتقيد بمكان ثابت لفترة طالت أو قصرت، لكن حتى هذا الشعور القميء بتقييد الحرية لم يكن هو منبع مأساة دنقل مع المرض، لكن التصارع والاشتباك -كما عبر دنقل- هما أزمته الحقيقية مع المرض.

 

الرجل الصعيدي كبير أسرته الذي تحمل مسؤولية عائلته في سن صغيرة جدا، العنيد الذي يخوض معارك لا حصر لها دفاعا عن آراءه مهما كلفه الأمر، الذي قال عنه الأبنودي نصا: "أمل يمر بالجبل ويفلقه، أمل ينحر الناس كلها ولا يرتعد". هذا الرجل الصلد القوي يرى أن الحرمان من التصارع والاشتباك هو كل ما يخيفه في المرض، لا المرض في ذاته ولا حتى انعدام قدرته على الحركة، لكن الحرمان من التصارع، فيقول: "لو أنى أردت الاشتباك مع أحدهم قد تأتى ردة فعله على شكل شفقة أو تجاهل، ففي نظره أنا مجرد رجل مريض لا حرج عليه، فتدريجيا أفقد رغبتي تجاه الأشياء ويتوقف تفاعلي مع الأمور والناس".

 

كل لحظات الوهن والضعف التي تدفع الإنسان للعزلة خوفا من عيون الناس؛ لم تنتهي إلا بهذا الدفء من مجموعة الأقران وتلك الكلمات الحانية من الأحبة، كـ (أنا معك، لا تقلق، كل شيء سيكون على ما يرام)

دنقل فسر ببساطة كل ما يمكن الشعور به تجاه المرض، وكأن المشكلة ليست في المرض في ذاته، بل المشكلة في تبعاته. طرح دنقل لقيمة الحرية والقدرة على التصارع وتبعات حرمان الإنسان منها كالشعور بالشفقة من الآخرين أو أمام الذات، والانسحاب تدريجيا من الواقع، كان كافيا جدا لتفسير مشاعر الناس المرتبكة تجاه المرض.

 

فتى الشادوف الذي يعمل على حمل جرة الماء من النهر ليملأ بها (المروة) التي بدورها تنقل الماء لري الحقل، وطبيعة عمله كانت قاسية جدا وتتطلب جهد بدني كبير، فكان من الطبيعي أن يغني ويشعر كنوع من الترويح على النفس والتنفيس. نقل لنا في التراث أن من ضمن هذا الشعر:

 

عيبٍ عليا أن قلت؛ (آه يا دراعـــي)

ده كتر الهموم بتفكر الأوجاعــي.

إن كان على شيل الهموم أنا أشيل،

عيب عليـــا أن قلت حمل تقيــل

 

يرى الشاعر عبد الرحمن الأبنودي أن قصيدة كتلك ما هي إلا نواح من فتيان الشادوف، حيث أنهم يحملون بداخلهم قدر من العزة تمنعهم من التأوي والاعتراف بالإرهاق والتعب، فيستهل بـ (عيب عليا)، قبل (آه يا دراعي). وكأنه ينكر على نفسه الاحساس بالألم. وهنا أعتقد أن خجله وخوفه من الشفقة سواء من نفسه على نفسه، أو من العيون المحيطين به، كانت وراء هذا النحيب المتواري.

 

سعي الإنسان الدائم لتكوين صداقات وعلاقات عاطفية، يتعدى طبيعته الإنسانية وغرائزه؛ إلى احتياجه الأصيل لمن يقف حائلا بينه وبين نفسه حين تحتدم الأمور
سعي الإنسان الدائم لتكوين صداقات وعلاقات عاطفية، يتعدى طبيعته الإنسانية وغرائزه؛ إلى احتياجه الأصيل لمن يقف حائلا بينه وبين نفسه حين تحتدم الأمور
 

في الرواية الشهيرة (القارئ) للكاتب الألماني برنارد شلينك والتي تحولت إلى فيلم يحمل نفس الاسم، يحكي لنا قصة (هنّا شميتز) المتهمة أمام المحكمة بجرائم حرب وإبادة جماعية لليهود أبان محارق الهولوكوست، وبعد ادعاء زميلاتها؛ أنها هي من أصدر الأمر لهم بحرق الدير بكل من فيه، وقدموا وثيقة للمحكمة يدعوا أنها منسوبة لـ هنّا وبخط يدها، مع العلم أنها أمية؛ لا تعرف القراءة والكتابة، لكن خجلها من الاعتراف بالجهل والأمية دفعاها للتصديق على رواية زميلاتها والاعتراف بتهمة لم ترتكبها في الأصل، وفضلت أن يراها الناس على أنها قاتله على أن ينظروا لها بعين الشفقة كونها جاهلة لا تعرف القراءة والكتابة. تسليط الضوء على الخجل من الجهل والخوف من إظهاره أمام أعين الناس، الذي دفعها إلى الاعتراف بجريمة لم ترتكبها وتحمل تبعات هذا الخجل فيحكم عليها بالمؤبد، كان الركيزة الأساسية التي بنى عليها شلينك روايته.

 

كل لحظات الوهن والضعف التي تدفع الإنسان للعزلة خوفا من عيون الناس؛ لم تنتهي إلا بهذا الدفء من مجموعة الأقران وتلك الكلمات الحانية من الأحبة، كـ (أنا معك، لا تقلق، كل شيء سيكون على ما يرام). تلك الروابط الإنسانية القوية التي تجعل المرء يختبئ من نفسه وراءها، وإحساس التقبل من المجتمع المحيط يجعله أقدر على مجابهة خجله من ضعفه وأوجاعه وجهله على السواء. فالإنسان يستطيع أن يتصارع ويتشابك مع أصدقائه وأحبابه متى شاء وكيفما شاء بهذه الطمأنينة والثقة التي تملأه تجاه هؤلاء الذين تقبلوه وأخفوه عن أعين العالم عند شعوره بالخوف والوهن.

 

حتى هذا الشعور بالخجل من إظهار التعب والإرهاق يتلاشى ونصرح بسلاسة أمام المواساة الحانية الصادقة. وكذلك لن يتوارى المرء خجلا من الاعتراف بجهله حيال أمر ما أمام رفاقه، ولا مضطرا للتجمل أو الكذب لإخفاء جهله. الحق أقول لكم، أن سعي الإنسان الدائم لتكوين صداقات وعلاقات عاطفية، يتعدى طبيعته الإنسانية وغرائزه؛ إلى احتياجه الأصيل لمن يقف حائلا بينه وبين نفسه حين تحتدم الأمور. فنحن مدينون لأصدقائنا وأحبائنا بهذا النور حين نظلم من الداخل، فيكونوا هم مصدرنا الوحيد لتقبلنا لأنفسنا حين نغرق في الظلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.