شعار قسم مدونات

أوراق عائد من أفغانستان (3).. كابل الثكنة الكبيرة

blogs ضاحية كابل

خارج المطار يتسابق الناس لاستقبال ذويهم المعتمرين بالدموع ونثر الورود ويقلدونهم أكاليل ملونة ويركبون معهم في سيارات ومواكب أشبه بالأعراس. كانت هذه أول مظاهر الفرحة التي رأيتها في وجوه الأفغان.. فرحة تنبع من الأعماق تعتلي وجوها كادحة أنهكتها سنون الحرب الطويلة. وتستقبلك خارج المطار إعلانات شركة الاتصالات بلغة الباشتو أو الداري الفارسية وهما اللغتان المعتمدتان في البلاد.. هاتان اللغتان اللتان تكتبان بالحروف العربية تجعل وطأة غربتك في البلد أقل حيث يمكنك تهجئة عباراتهم وفهمها أو على الأقل فهم المعنى العام لما هو مكتوب.

 

وفي مواقف السيارات تعرفت مجددا على السائق محمد والزميل حميد الله المنتج بمكتب قناة الجزيرة الذي سأمضي معه أيام مهمتي التي تمتد شهرا.. طيبة الرجل وتلقائيته تجعلك تشعر بالراحة فور مقابلتك له. وقبلها بأيام تحادثنا هاتفيا وتبادلنا الرسائل عبر الواتس أب ومكنني من إرواء ظمئي بشأن الكثير من القضايا التي استفسرت عنها قبل وصولي إلى كابل.

 

يشعر القادم لأول مرة إلى كابل بالرعب ـ ولعل هذا كان انطباعي الأول ـ وهو يخرج من المطار وسط إجراءات أمنية في غاية التشديد وتقابله أسوار إسمنتية عالية تعلوها أحيانا أسلاك شائكة تحجب عنه المباني الرسمية والفنادق وكل شيء جميل. كان السائق محمد ينطلق بالسيارة متجاوزا الزحمة بشتى الطرق مستفيدا من خبرته كسائق لدى مكتب الجزيرة منذ سبعة عشر عاما.

 undefined

مضى أول يوم لي بكابل في استكشاف بعض أحياء المدينة الجريحة وكان ازدحام السيارات كبيرا إلى الحد الذي دفع السلطات إلى احتكار بعض الممرات داخل المدينة للسيارات الرسمية والأمنية فقط. ضجيج أبواق السيارات القديمة أصبح ديكورا مرتبطا باسم كابل إلى جانب أزيز طائرات الهيلكوبتر التي لا تتوقف عن الحركة في السماء في القواعد العسكرية المنتشرة وسط المدينة.. حيث تفضل القوات الأمريكية نقل جنودها وإمداد ثكناتها بالحوامات العسكرية تفاديا للزحام الذي يجعلهم مستهدفين بالعبوات الناسفة وهجمات حركة طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية.

 

وحينما تطالع برأسك إلى السماء تلاحظ انتشار بالونات هوائية عملاقة على شكل مناطيد في سماء المدينة بها كاميرات مراقبة ترصد كل شاردة وواردة. كانت حركتنا داخل المدينة مدروسة وفي حدودها الدنيا تفاديا لأي مفاجأة قد تحدث فتوقيت وصولنا جاء بعد أيام من إعلان حركة طالبان استئناف هجماتها على القوات الأجنبية والقوات الأفغانية في إطار هجمات الربيع. هجمات هذا العام أطلقت عليها اسم الخندق تيمنا بغزوة الخندق التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم. وجاء هذا الإعلان رفضا صريحا ليد الحوار التي مدتها السلطات الأفغانية للحركة.

 

يشكل فصل الربيع فرصة لإعادة الحياة إلى الكائنات والأشجار في أفغانستان وباقي بلدان العالم إلا أن عودته تخيف الأفغان بسبب استيقاظ حركة طالبان من سباتها الشتوي. سبات يشمل السكان أيضا حيث يأخذ التلاميذ والمدارس عطلتهم السنوية خلال فصل الشتاء ويدشنون دخولهم الاجتماعي مع قدوم الربيع وذوبان الثلوج وتحسن حالة الطقس حيث تصبح الطرق أقل وعورة.

 

وإلى جانب الخوف من هجمات حركة طالبان دخل تنظيم الدولة الإسلامية على خط التفجيرات والهجمات الانتحارية بوتيرة أكثر عنفا لا تفرق بين مدنيين وعسكريين. فالعمليات الانتحارية بالسيارات الملغمة والأحزمة الناسفة تجعل اكتشاف فاعلها أو السيطرة عليه أمرا بالغ التعقيد بحكم استعداده للموت المحتوم وسعيه لحصد أكبر عدد من الضحايا في طريقه.

 

شكلت هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق متنفسا له في أفغانستان حيث دعا التنظيم أنصاره إلى الهجرة إلى أفغانستان التي وصفها ببلاد خراسان لحمل راية التنظيم الدموي من جديد. ويستغل التنظيم حالة الاضطراب والفوضى في البلاد وتطرف بعض المجموعات الجهادية ومن بينها بعض المتعاطفين السابقين مع حركة طالبان وكذا الطبيعة الجبلية الوعرة لأفغانستان التي تسمح بشن هجمات سريعة وخاطفة.. هي كلها معطيات يستغلها تنظيم الدولة الإسلامية لفرض موضع قدم له في هذا البلد الجريح وهو ما شكل عبئا أمنيا إضافيا على القوات الأفغانية المستنزفة وعلى حركة طالبان أيضا التي دخلت معه في اشتباكات في ولاية ننغرهار شرقي البلاد.

 

سقوط الكثير من الضحايا سواء كانوا مدنيين أو عسكريين أصبح خبرا مألوفا يشبه النشرات الجوية التي تقدمها مذيعات الأخبار

قبل وصولي إلى أفغانستان كنت في تواصل مسبق مع منظمة غير حكومية تنشط في إقليم كراباغ شرقي كابل من أجل تقديم الخدمات الصحية لسكان هذه القرية النائية وكنت أسعى لتصوير تقرير عن تحدي طبيب وممرضة متطوعين لتقديم الخدمات الصحية لسكان هذه المنطقة النائية وتحويل صاحب البيت محل تجفيف الخضر والفواكه إلى عيادة طبية تعالج السكان بأسعار زهيدة لا تتجاوز ربع دولار وبالمجان لمن لا يملك ثمن العلاج وكنت في تواصل مع سيدة فرنسية تتابع الموضوع واتفقنا على الخروج صباحا للتصوير في اليوم الثاني من وصولي إلى البلاد إلا أن تحذيرات أمنية منعتنا من المغامرة وأجلنا التصوير إلى وقت غير مسمى. فيوم وصولي إلى كابل اكتشف الأمن الأفغاني عبوة ناسفة زرعت في مفترق طرق كما انفجرت أخرى في مفترق طرق آخر ولحسن الحظ لم تخلف ضحايا.

 

وعلى ذكر الضحايا فسقوط الكثير منهم سواء كانوا مدنيين أو عسكريين أصبح خبرا مألوفا يشبه النشرات الجوية التي تقدمها مذيعات الأخبار. ومن المؤسف أن تصبح هذه الأخبار اليومية مقتصرة على إحصاء عدد الضحايا وتحديث أعدادهم بناء على نشرات أمنية تجعل منهم في النهاية مجرد أرقام. وضع يذكرني بالحرب الأهلية في سوريا أو الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر خلال سنوات التسعينيات حينما يتم تقديم أعداد الضحايا في النشرات الإخبارية ولا تحرك ساكنا في وجدان الكثيرين لأنهم ألفوا سماع مثل تلك الأخبار.

 

وكم يزعجني هذا "التطبيع" حين أرى موقع الفايسبوك يسارع إلى اقتراح تنبيه للجميع ليعلنوا لأصدقائهم ومعارفهم بأنهم في أمان حينما تنفذ عملية طعن في شارع راق بباريس ويموت فيها شخص أو شخصان أو عملية إطلاق نار في إحدى المدارس الأمريكية. وفي المقابل لا تقترح أي شيء من هذا القبيل حينما تنفذ عملية انتحارية في أحد شوارع كابل يموت فيها العشرات ويختلط فيها الحابل بالنابل.. وفي الحقيقة هو نموذج من نماذج الازدواجية في التعامل وكأن أرواح سكان المنطقة الجنوبية من الكرة الأرضية وهذه المنطقة المكلومة من العالم أقل شأنا وثمنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.