شعار قسم مدونات

كيف تعمل المشاعر؟

blogs ضحية حزن

قد يقول شخص ما: أشعر بالبرد وقد لا يقول شخص آخر أي شيء ولكننا نراه يرتجف وسنعرف حينها أنه يشعر بالبرد. ولكن ماذا عن الشخص الذي لا يقول شيئاً ولا يرتجف؟ ماذا عنه إذ تبدو كل معرفة به مستعصية؟ وكل ما يتعلق به غامض؟ إن كان صحيحاً أن بإمكاننا دوماً التعرف علي -أي إنسان ولو إلي درجة بسيطة- فستكون المعرفة محدودة، ستكون معرفة لا تتجاوز الحد الذي يسمح به الشخص المعني بها. ولا يسع المرء فعل شيء إزاء ذلك سوي المراقبة". هذا يضعنا أمام جدلية هامة ألا وهي: هل نحن بحاجة لنتعلم كيف نري الأمور حولنا؟ أم يكفي كيف نشعر بها؟ هل علينا أن نتعلم إعطاء التفسيرات والمبررات أم عليها أن تجدنا؟

حاولت أن أجد لهذا تفسيرا ولم أجد سوى أنه يجب علينا أن نبذل جهدنا في الوصول إلى ما يعبّر عنٌا، أن نجرب كل طريقة ونتواصل مع أعماقنا ومع الحياة من حولنا لمعرفة أعلى الطرق وأبلغها في التعبير عنّا، حتى المتوحدين والصم والبكم والمصابون بالشلل توصلوا للطرق التي يمكنهم من خلالها التعبير عن ذواتهم، إنه لمن المعيب ألا يصل لهذا إنسان صحيح معافى وأنه لا يستحق الغاية مَن لا يعرف الوسيلة.

الحنين حالة شاعرية غامرة بالأُلفة وعادة ما تكون إرادته غامضة لا نشعر بها بينما تعمل مثلما يعمل العقل بالباطن بطريقة متوازية ومفصلية في الشعور

مشكلة المشاعر أنها تتولّد من عدّة مكونات قد لا نعرف إلا جزءاً يسيراً منها، مع أن كل شيء نعيشه يتدخل بطريقة ما في صناعة مشاعرنا وفي كثير من الأحيان يكفي أن نتخيله أو نعرف عن وجوده فقط ليصبح مكونا لها، فما من شيء تدرك لينّه وسهولته إلاّ ويجعلك عارفاً بأمانه وما من شيء تدرك قسوته وبأسه إلاّ ويجعلك رهين ألمه. وبين اللّين والقسوة تحاول أن تفعل شيئاً قاسياً تجاه مشاعرك التي لا تعجبك فتجد نفسك في صراع داخلي كبير لا تتمكن من الربح فيه مهما كنت مقاتلاً شرساً.

هل وجودنا يعتمد بقدر كبير على الذاكرة؟ أم رغبتنا الدائمة في التكرار واعتقادنا بأن الماضي أفضل هي ما تدفعنا دوماَ إلى الحنين؟ شعور الحنين والعودة إلى الذات القديمة، تلك الرغبة اليائسة في إيقاف الزمن أو العودة فيه عادةً ما يكون مبعثها هو الشعور بالخوف والتعب من الحالة الراهنة، وفي الحُب بالذات التجربة الأعمق إنسانياً ستحن وإلى الأبد إلى تكرارها بالتفصيل من حيث لم تخطئ بعد ولم تتبدل الأحوال إلى فراق لأنك بطريقة ما تبحث عن خاتمة لائقة أو على الأقل تقول ما لم يُتح لك قوله حين كان يجب أن تقوله.

 

وهذا ما يجعل قلب إنسان ما فاترا، وتتعقد اشتراطاته، ويقل من يألفهم ومن يريدهم ومن يذهب معهم بعيداً، يجد راحته وأُنسَه في الحنين إلى الماضي، رغم أن التخلّص من ذلك الشعور يتطلب ابتداءً تصالحا تاما وخالصا مع الفقد الماضي، مع ما خسرناه وليس بيدنا حيلة بعد، لأنه عندما يشعر المرء بالأمان يأتي الحب، ليس أماناً قادماً من الظروف ولا الزمان، بل من الداخل، من الذات.

لذلك الحنين حالة شاعرية غامرة بالأُلفة وعادة ما تكون إرادته غامضة لا نشعر بها بينما تعمل مثلما يعمل العقل بالباطن بطريقة متوازية ومفصلية في الشعور. ربما يحظى الماضي بتلك الحَفَاوة فقط لأننا نجهل أي مستقبل ينتظرنا وليس بيننا وبينه سوي سوء الفهم والتوجس. قال أحدهم يوماً "للحنين سخافة كسخافة مدرسة أقامت حفلاً للآباء وطلاّبها يتامى" وأنا أكتفي بوصفه أنه التواء في عضلة القلب.

قد يكون هناك شيء يزعجك، شخص فقدته، ظرف تغيّر، ضغوطات تجمّعت، كل هذا يتدخل في صناعة مشاعرك
قد يكون هناك شيء يزعجك، شخص فقدته، ظرف تغيّر، ضغوطات تجمّعت، كل هذا يتدخل في صناعة مشاعرك
 

مشاعرنا ليست شيئاً بسيطاً نتمكن من الاستهانة به أو التعالي عليه أو رفضه والتخلي عنه، يجب أن نحتفي بمشاعرنا حين تطغي، كل إنسان منّا عليه أن يختار حياته بنفسه، من الحزين أكثر أن يصوّر الإنسان حياته كما لو أنها مشروع خيري تشاركي لمجرد ألاّ يطغي الشعور عليه وحده، وكأننا في مضمار نتسابق على جائزة مَن منّا يشعر أكثر ومَن منّا أصبح بليد؟ إنه تفكير تقليدي غابرٌ تعيس، لماذا تبدو حياتنا وكأنها عبء نريد أن نحُطَّه على شخص آخر أو نتركه على قارعة طريق أو عتبة؟ لماذا أعمارنا على العدّاد، ومخاوفنا وهواجسنا بهذه السطحية والتملص من الذات؟

لابد أن ثمة شيء مفقود، سواء كنّا نعرفه أو لا، ولكنه هو الذي سرق منّا جذوة روحنا وماهية الأشياء وعفوية الشعور، قال لي الطبيب مرّة مشكلتنا أننا نربط الشعور دوما بالنفس والروح متناسين الجسد والظروف والمكان، قد يكون هناك شيء يزعجك، شخص فقدته، ظرف تغيّر، ضغوطات تجمّعت، كل هذا يتدخل في صناعة مشاعرك حتى الطقس إن تغيّر فجأة سيتغير معه مزاجك.

 

لا يسعنا أمام ذلك سوي أن نتكلم، الكلمات تساعد كثيراً، تجعل أفكارنا تتجسد وتخرج وتُفهم ويُعبَّر عنها ويُشعَر بها وهذا مهم. صحيح أن البعض يعتقد خطئاً بأن الرجل مَعنيّ أكثر بعالم المادة بينما المرأة تمتلك هامشاً كبيراً للعاطفة والتفاصيل والرغبة في التواصل مع الذات، لكن هذا لا يهم، رجلاً كُنت أو امرأة جرّب أن تتواصل حتى مع صنم وسيكون لديك الكثير من الكلام فمَن كان له قلب فليحتال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.